سند الحديث: الوصف الشفوي مقابل تبعية المخطوطة
مقال بقلم د. خوندكار أ.ن.م عبد الله جاهنجير، منشور في مجلة معهد التعليم الإسلامي والبحوث، المجلد الأول، العدد الأول، يونيو 2006
1. المقدمة
لقد تم التأكيد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية على ضرورة التحقق من صحة ودقة الأحاديث. من ناحية، تم الأمر بنقلها بدقة وحرفية عن طريق الحفظ، وتم النهي عن رواية أي حديث دون التأكد من صحته ودقته. ومن ناحية أخرى، تم النهي عن قبول أي حديث منقول أو مروي دون التحقق الكامل منه.
في ضوء هذه التوجيهات، اتبع الصحابة منهجًا صارمًا وعلميًا دقيقًا في نقل الأحاديث وقبولها، وهو منهج لا مثيل له في تاريخ العالم. لم يتبع أي شعب أو أتباع دين آخر منهجًا مشابهًا أو قريبًا من هذا المنهج في جمع وحفظ نصوصهم الدينية أو أقوال معلميهم الدينيين.
بتأثير من عمل الصحابة، استمر علماء الحديث من الأمة الإسلامية لعدة قرون في تطبيق منهج دقيق وعلمي للتحقق من صحة الأحاديث ودقتها النصية. ومع ذلك، في العصر الحالي، كثير من الناس ليسوا على دراية كافية بهذا المنهج العلمي الدقيق. هناك الكثير من الغموض والالتباس حول هذا الموضوع. يعتقد العديد من المستشرقين والباحثين المحليين أن الأحاديث، بما أنها نُقلت شفهيًا عبر أسانيد أو سلاسل الرواة، فهي مليئة بالأخطاء والتحريفات، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها. وبناءً على ذلك، يرون أنه يجب الاعتماد فقط على القرآن الكريم لفهم تشريعات الإسلام. إن هذه الشبهات نشأت بسبب نقص الفهم الواضح للمنهج العلمي الدقيق الذي اتبعه المحدثون في تقييم صحة الأحاديث. في هذا المقال، سنناقش مكانة الكتابة والمخطوطات في رواية سند الحديث وتقييم صحته. نسأل الله تعالى التوفيق، ونتوكل على رحمته.
يُقصد بالحديث في العادة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. أي قول أو فعل أو تقرير أو وصف نُسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ادُّعي نسبته إليه، فهو يُعرف في مصطلح المحدثين بـ"الحديث". بالإضافة إلى ذلك، يُطلق لفظ "الحديث" أيضًا على أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم وتقريراتهم.
[العراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (٨٠٦هـ)، "التقييد والإيضاح" (بيروت: مؤسسة الكتب العلمية، الطبعة الخامسة، ١٩٩٧)، ص ٦٦-٧٠؛ "فتح المغيث" (القاهرة: مكتبة السنة، ١٩٩٠)، ص ٥٢-٦٣؛ السخاوي، محمد بن عبد الرحمن (٩٠٢هـ)، "فتح المغيث" (القاهرة: مكتبة السنة، الطبعة الأولى، ١٩٩٥)، ج ١/٨-٩، ١١٧-١٥٥؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (٩١١هـ)، "تدريب الراوي" (الرياض: مكتبة الرياض الحديثة)، ج ١/١٨٣-١٩٤.]
مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه»، وأشار رسول الله ﷺ بيده يقللها.[مالك بن أنس، الموطأ (القاهرة: دار إحياء التراث العربي)، ج١/١٠٨.]
السند: "مالك عن أبي الزناد... عن أبي هريرة".
المتن: ما قاله النبي ﷺ عن ساعة الإجابة يوم الجمعة.
"دخلت على أبي محمد بن زبر... وهو يملي على كاتبه الحديث من جزء والمتن من آخر."[ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان (بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط٣، ١٩٨٦)، ج٣/٢٥٣.]
من خلال الأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث الكثيرة المدونة في كتب الحديث، قد يظن البعض أن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يدونوا الأحاديث أو يجمعوها، بل اعتمدوا فقط على الحفظ والرواية الشفهية. ولذلك - كما قد يتوهم البعض - قام المحدثون بتدوين الأحاديث مع ذكر الأسانيد بهذه الطريقة. لكن هذا الاعتقاد خاطئ تمامًا. إن الجهل بطريقة رواية وتجميع الأحاديث، أو الفهم السطحي لها، هو الذي أدى إلى هذا اللبس الكبير.
كان الصحابة عادةً يحفظون الأحاديث، وكتبوا بعضها أحيانًا. والملاحظ هنا أن الصحابة لم يكونوا بحاجة ماسة إلى تدوين الأحاديث، إذ أن معظمهم لم يروِ أكثر من ٢٠-٣٠ حديثًا. بلغ عدد الصحابة الذين رووا الأحاديث حوالي ١٥٠٠ صحابي فقط، منهم ٣٨ صحابيًا رووا أكثر من مئة حديث. ومن هؤلاء، رُوي عن ٧ صحابة فقط أكثر من ألف حديث، بينما رُوي عن الـ٣١ الباقين ما بين مئة إلى بضع مئات من الأحاديث. أما بقية الصحابة، فروى معظمهم ما بين حديث واحد إلى ٣٠ حديثًا. [ابن حزم، علي بن أحمد (٤٥٦هـ)، أسماء الصحابة الرواة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط١، ١٩٩٢).]
لم تكن هناك حاجة لكتابة ٢٠-٣٠ حديثًا، أو حتى مئة أو ألف قول أو حدث من ذكريات الصحابة مع النبي ﷺ. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن في حياتهم ما يشغلهم عن هذا الأمر. فقد كان تذكر النبي ﷺ، وتنفيذ أوامره بدقة، والاقتداء به، ونقل أقواله إلى الناس من أهم أعمال حياتهم. ولم تكن المشاغل الدنيوية تشغل أذهانهم. فإذا كانت الذكريات والأقوال حاضرة دائمًا في الذهن والسلوك، فما الحاجة إلى كتابتها على الورق؟ ومع ذلك، فقد كتب العديد من الصحابة أحاديثهم المحفوظة في مخطوطات وحافظوا عليها. [محمد عجاج الخطيب، السنة قبل التدوين (القاهرة: مكتبة وهبة، ط١، ١٩٦٣)، ص ٣٠٣-٣٢١.]
كان حفظ المخطوطات المكتوبة جزءًا لا يتجزأ من عملية تعلُّم الحديث منذ عهد طلاب الصحابة، أي التابعين. فقد كان معظم التابعين والمحدّثين من بعدهم يسمعون الحديث ويتعلّمونه ويكتبونه ويحفظونه. وعند التحديث أو التعليم، لم يكونوا يعطون أحدًا مجرد نسخة مكتوبة دون الرواية الشفوية. بل كانوا يقرؤون على طلابهم من المخطوطات مباشرة أو يروون ما حفظوه منها. وكان الطلاب بدورهم يكتبون ما يسمعونه في ألواحهم الخاصة ويقارنونه مع نسخ شيوخهم. ومنذ أواخر القرن الأول الهجري، أي في عصر التابعين، أصبحت كتابة الأحاديث التي تُقرأ جزءًا لا ينفصل عن نظام تعلُّم الحديث. وقد دوّنت كتب الحديث عددًا لا يُحصى من الروايات في هذا الباب، ونذكر هنا بعضًا منها.
قال التابعي عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب (ت 140هـ):
كنت أذهب أنا وأبو جعفر إلى جابر بن عبد الله ومعنا ألواح صغار نكتب فيها الحديث.
[الرَّامَهُرْمُزِي، حسن بن عبد الرحمن (ت 360هـ)، المُحدِّث الفاصل، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1404هـ)، ص 370-371]
قال التابعي سعيد بن جبير (ت 95هـ):
كنت أكتب عند ابن عباس، فإذا امتلأت الصحيفة أخذت نعلي فكتبت فيها حتى تمتلئ.
[المصدر السابق، ص 371]
قال التابعي عامر بن شراحيل الشعبي (ت 102هـ):
اكتبوا ما سمعتم مني ولو على جدار.
[المصدر السابق، ص 376]
قال التابعي أبو قلابة عبد الله بن زيد (ت 104هـ):
الكتابة أحب إلي من النسيان.
[ابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد (ت 795هـ)، شرح علل الترمذي، (بيروت: عالم الكتب، الطبعة الثانية، 1985م)، ص 57]
قال التابعي الحسن البصري (ت 110هـ):
إن لنا كتبًا نتعاهدها.
[الرَّامَهُرْمُزِي، المحدّث الفاصل، ص 370-371]
قال المحدث التابعي المعروف وتابِعُ التابعين عبد الله بن المبارك (ت 181هـ):
لولا الكتاب لما حفظنا.أي: "لو لم نكتب الحديث في الصحف لما استطعنا حفظه عن ظهر قلب."[ابن رجب، شرح علل الترمذي، ص 57]
وهكذا نرى أن المحدثين منذ عصر التابعين كانوا يكتبون الأحاديث أثناء التعلُّم. وكان التابعون وتابعوهم غالباً ما يُعلّمون الحديث بقراءة النصوص من صحفهم، وأحياناً كانوا يروون من الحفظ، لكنهم كانوا يحتفظون بالصحف عندهم لمراجعتها عند الحاجة.
منذ عصر الصحابة، اعتمد علماء الأمة الإسلامية في التحقق من صحة الحديث ودقته وسلامته على أمرين رئيسيين:
وقد استخدموا في ذلك أسلوب التحقق الشامل (Cross Examination)، على غرار ما يقوم به القاضي والمحامي وهيئة المحلفين في المحاكم. فكانوا يجمعون المعلومات عن الراوي نفسه، وكل ما رواه من الأحاديث، وعن شيوخه، وتلاميذ شيوخه، وما رووه من الأحاديث، ثم يُجْرون مقارنة شاملة لكل ذلك حتى يصلوا إلى الحكم على الحديث الذي رواه.
في التحقق من دقة وضبط رواية الراوي (الضبط)، اتبع المحدثون عدة مناهج دقيقة. وكانت الخطوة الأولى والأساسية في هذا المجال هي السفر الواسع في أنحاء العالم الإسلامي لجمع جميع الأحاديث المنتشرة مع أسانيدها المختلفة. ثم يتم ترتيب هذه الأحاديث حسب الأسانيد التي رواها كل راوٍ، ليتم مقارنتها وتحقيقها. وقد كانت طرقهم في هذا التحقيق على النحو التالي:
ولا يتسع المقام هنا لشرح جميع جوانب منهج التحقق هذا، لكننا سنكتفي هنا بمناقشة آخر نقطتين المتعلقتين بالكتابة والتدوين.
لقد رأينا سابقًا أن الرواة والمحدثين منذ عصر التابعين كانوا عادةً ما يدوّنون الأحاديث التي تعلموها من كل شيخ في مخطوطات منفصلة ويحفظونها. وكانوا يراجعون الروايات المحفوظة شفهيًا بمقارنتها مع المخطوطات للتحقق من دقتها. وإذا لزم الأمر، كانوا يفحصون الخط والحبر وغير ذلك من خصائص المخطوطة. انظر إلى مثال من مدى دقتهم في هذا المجال:
فيما يلي بعض النماذج لاستخدام المخطوطات في التحقق من صحة الحديث:
📚 ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل ١/٣٣٦
كان من أبرز إجراءات الحفاظ على الحديث والتثبت من صحته عند المحدثين الجمع بين السماع والكتابة. ومن خلال هذا التدقيق تبين لهم أن الراوي المعتمد فقط على السماع والذاكرة يقع في الخطأ، وأكثر خطأً يقع فيه من يعتمد فقط على النسخ المخطوطة. فالراوي الذي يجمع بين الاثنين يعتبر موثوقًا. ولهذا السبب اعتبروا معظم الرواة المعتمدين فقط على الحفظ أو فقط على النسخ ضعفاء.
في زمن التابعين أو بعدها، كان بعض المحدثين يحفظون الحديث عن ظهر قلب ويروونه دون الاعتماد على المخطوطات. وتبين في أغلب الأحيان أنهم ضعفاء في الرواية. وأثبت المحدثون اللاحقون من خلال التحقيق المقارن أنهم كانوا يخطئون أحيانًا بسبب عدم اعتمادهم على النسخ. في الحقيقة، الحفظ السمعي والنسخ المكتوبة هما السبيل الموثوق للرواية. ولهذا السبب، اعتبر المحدثون الراوي الذي يعتمد فقط على النسخ أو فقط على الحفظ ضعيفًا أو غير موثوق به. وكشف التحقيق المقارن الأخطاء والتفاوت في رواياتهم. ونجد كثيرًا من هذه الروايات في كتب الرجال والجَرْح والتعديل. فيما يلي بعض الأمثلة:
(١) كان أبو عمار عكرمة بن عمار العجلي (ت ١٦٠ هـ) من التابعين المحدثين المشهورين في القرن الثاني. وكان معروفًا بحفظه للحديث (حافظ). لكنه لم يكن يدوّن ما يحفظه ولا يحتفظ به على شكل مخطوطة، ولا كان يستطيع الرجوع إليه عند الحاجة. ولهذا وُجدت في بعض أحاديثه أخطاء. وقال الإمام البخاري (٢٥٦ هـ):
هكذا نرى أنه منذ القرن الثاني الهجري كان الاعتماد على الجمع بين السماع الشفهي من الشيخ وحفظ المخطوطات الكتابية للحفاظ على صحة أخذ وتدريس الحديث. وحتى الحافظون المشهورون الذين قضوا حياتهم في دراسة وتدريس الحديث وحفظوا آلاف الأحاديث لم يكونوا يروون الحديث إلا بمراجعة المخطوطات وعدم الاعتماد على الحفظ فقط.
من خلال النقاش السابق يتضح أن علماء الحديث منذ القرن الثاني الهجري كانوا يعتبرون التنسيق بين ثلاثة أمور في تعلم الحديث أمرًا بالغ الأهمية: أولًا الاستماع اللفظي للحديث من الأستاذ أو قراءته عليه، ثانيًا كتابة الحديث بيد المتعلم، وثالثًا مراجعة المخطوطة المكتوبة ومقارنتها بمخطوطات الأستاذ لتصحيحها. وكانوا يعترضون على قبول حديث يُروى عن ظهر قلب دون مخطوطة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الإمام يحيى بن معين، رغم أنه لم يكن يوافق حتى على قبول حديث واحد من عالم معروف ونزيه كعبد الرزاق الصنعاني إلا إذا كان معتمدًا على مخطوطة مكتوبة محفوظة.
وكان الاستماع عن قرب ممكنًا بعدة طرق، إما أن يقرأ الأستاذ بينما يراجع الطالب المخطوطة أمامه، أو يكتب الطالب أثناء قراءة الأستاذ ثم يقرأ له ما كتب، أو يقرأ طالب آخر أمام الأستاذ فيستمع، أو يقوم الراوي بنسخ المخطوطة من الأستاذ أو أحد طلابه ثم يقرأها كاملة أمامه.
بأي حال، يجب أن يُسمع النص من فم الكاتب أو الراوي الخاص بالمخطوطة أو يُسمع في حضورهم أثناء القراءة، حتى لا يقع خطأ في نقل ما هو مكتوب في المخطوطة.
أما الذين كانوا يعتمدون فقط على جمع المخطوطات دون الاستماع اللفظي المباشر من أستاذهم، فلا يُقبل حديثهم.
وعند مراجعة كتب تحقيقات ونقد المحدثين، نجد أمثلة كثيرة حيث أبرزوا أخطاء الرواة المعتمدين على المخطوطات واعتبروا هؤلاء الضعفاء وغير المقبولين.
ذكرت سابقًا عالم الحديث والفقه المصري في القرن الثاني عبد الله بن لهيعة، وهو راوٍ مشهور وروى العديد من الأحاديث. قام المحدثون بمراجعة جميع الأحاديث التي رواها بالمقارنة ووجدوا أن نسبة الأخطاء في أحاديثه كبيرة جدًا. أحد أسباب الأخطاء ذُكر سابقًا. الإمام مسلم برهن على جانب آخر من أخطائه من خلال التحقيق. قال الإمام مسلم:
حدثنا جُهَيْر بن حرب، حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة، كتب إليّ موسى بن عقبة (١٤١ هـ)، حدثني بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال:
احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد
قال إسحاق بن عيسى، قلت لعبد الله بن لهيعة: هل في بيته مكان للصلاة أو مسجد؟ قال: في مسجد النبي.
قال الإمام مسلم: رواية الحديث مشوهة من كل جانب. في السند والمتن أخطاء جسيمة. عبد الله بن لهيعة حرّف كلمات المتن وارتكب أخطاء في السند. وأورد الحديث الصحيح كما يلي:
حدثني محمد بن حاتم، حدثنا بهيج بن أسعد، حدثنا وُهيب بن خالد بن أزلان (١٦٥ هـ)، حدثني موسى بن عقبة، سمعت أبا نضر سليم بن أبي أمية (١٢٩ هـ) يقول: عن بُسْر بن سعيد عن زيد بن ثابت قال:
إن النبي ﷺ اتخذ حجرة في المسجد من حصير فصلى رسول الله ﷺ فيها ليالي…
قال الإمام مسلم: حدثني محمد بن المصنَّع، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفارسي (١٤٥ هـ)، حدثنا أبو نضر سليم، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، قال:
احتجر رسول الله بخصفة أو حصير...
"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء غرفة في المسجد من حصير أو حصفة..."
وهكذا نجد الرواية الصحيحة من وُهيب بن خالد (١٦٥ هـ) عن موسى بن عقبة عن أبو نضر، وكذلك ما رواه عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفارسي (١٤٥ هـ) في سلسلة أخرى عن أبو نضر.
وقد أخطأ ابن لهيعة في وصف المتن هنا لأنه لم يسمع الحديث من موسى سماعًا مباشرًا، بل اعتمد فقط على نسخة مكتوبة أرسلها له، كما ذكر هو. ولهذا قرأ كلمة احتجم "أجرى الحجامة" بدل احتجر "بنى غرفة". ونخشى هذا التحريف في كل من يعتمد على نسخة مكتوبة دون سماع الحديث مباشرة من الراوي أو من قرأ عليه.
وأما الخطأ في السند فهو أن موسى بن عقبة أخذ الحديث من أبو نضر سليم، وأبو نضر أخذ الحديث من بُسْر بن سعيد، ولكن ابن لهيعة في سنده لم يذكر اسم أبو نضر وقال إن موسى سمع الحديث من بُسْر مباشرة. [ابن حجر، تهذيب التهذيب ٨/٤٤]
ولهذا السبب حكم المحدثون بالضعف على الذين يروون عن طريق النسخ فقط. حتى وإن كان الراوي ثقةً صدوقًا أمينًا ثبت ذلك، فإذا روى حديثًا عن أبيه أو جده لم يسمعه منه سمعًا مباشرًا وإنما قرأه من نسخة محفوظة عنده، حكم المحدثون على روايته بالضعف.
وكان من التابعين المشهورين في القرن الثاني ربيُّ عَمْرُو بن شعيب بن محمد (١١٨ هـ)، وهو حفيد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. اتفق المحدثون على أنه ربيب ثقة، لكنهم اعتبروا بعض الأحاديث التي روى عن طريق أبيه عن جده ضعيفةً بعض الشيء، لأنه لم يسمعها من أبيه سمعًا مباشرًا بل روى عن طريق النسخ. وفي هذا قال يحيى بن معين (٢٣٣ هـ):
إذا حدث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب ومن هنا جاء ضعفه.
وقال أبو زرعة الرازي (٢٦٤ هـ):
روى عنه الثقات، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده وقال إنما سمع أحاديث يسيرة وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها.
تابع التابعين والمحدث المعروف في القرن الثاني الهجري، مخرامة بن بكير بن عبد الله (١٥٩ هـ). قد تحقق المحدثون في أحاديثه ووجدوه مقبولًا إلى حد ما، ولكنهم وصفوا الأحاديث التي رواها عن طريق أبيه بأنها ضعيفة. فقال يحيى بن معين (٢٣٣ هـ):
وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه … حديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه.
لقد وجد نسخة كتاب أبيه وروى عن أبيه من خلالها، ولم يسمع تلك الأحاديث مباشرة من أبيه.[عبد الحي اللخنوي، جعفر الأماني في مختصر الجرجاني (دبي، دار العلم، الطبعة الأولى، ١٩٩٥)، ص. ٤٧٦-٤٨٢]
٤. دور النسخ في سند الحديث
من خلال النقاش أعلاه نفهم أنه منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري كان الحديث يُكتب ويحفظ عن ظهر قلب. كان المحدثون يروون الحديث عن طريق الاطلاع على النسخ المكتوبة ويدققونها ويصححونها، وكل منهم كان يحفظ حديثه المدون. والسؤال الآن: لماذا كانوا يعتمدون في روايتهم للحديث على السماع فقط دون الإشارة إلى النسخة المكتوبة؟ لماذا كانوا يقولون (حدثنا، أخبرنا) أي "أخبرني" أو "أخبرنا" بدلاً من أن يقولوا إن هذا مكتوب في فلان الكتاب؟
هنا (حدثني، حدثنا، أخبرني، أخبرنا) أي "أخبرني" أو "أخبرنا" ماذا يقصد المحدثون بهذه العبارات؟ لا نعرف الجواب بدقة، ولهذا يطرح السؤال. الحقيقة هي أن الصحابة كانوا يذكرون اسم الراوي عند نقل الحديث، ولهذا في الأجيال اللاحقة كان ذكر اسم الراوي هو الأسلوب المتبع في ذكر السند. بالإضافة إلى ذلك، ولتجنب الاعتماد على النسخ فقط وللحد من الأخطاء، كان المحدثون يولي أهمية خاصة للسماع المباشر من أستاذ الرواية. ولهذا لم يكن هناك نظام للاستشهاد بالكتب أو النسخ في تعليم الحديث، بل كان النظام الاعتيادي ذكر اسم معلم الراوي.
وفي الحالتين، كان هناك نسخة مكتوبة أمام الطالب، وكان المحدث يطابق الحديث بين السماع والنسخة المكتوبة ويصححه. ومع ذلك، في ذكر السند، كانت الإشارة إلى السماع أهم من الإشارة إلى النسخة المكتوبة. وكانوا يشددون على ذلك لتجنب الأخطاء الناتجة عن الاعتماد على النسخ فقط.
من هذا نفهم أن سند كتاب الموطأ المذكور أعلاه لا يعني أن مالك سمع فقط شفهيًا من أبي يزْناد، ولا أنه سمع أراج شفوياً، ولا أنه سمع من أبي هريرة شفهيًا فقط. بل المقصود بذكر السند هنا هو أن رواة السند كلهم سمعوا الحديث من أستاذهم مباشرة، وكتبوه، ووافقوا بين النسخة المكتوبة والرواية الشفوية.
مالك قال: "سمعت أبا يزْناد يقرأ أو يُقرأ عليه من كتابه أو نسخته الخطية"، وأراج قبل ذلك تلقى الحديث كتابة وشفهياً، وأبو هريرة قد سمع وكتب.
ومن الملحوظ هنا أن الإمام البخاري اقتبس الحديث كما هو من كتاب الموطأ، ولكنه لم يذكر مصدر الموطأ في إشارته. بل ذكر أنه سمع الحديث من أحد تلاميذ الإمام مالك. وقد يبدو للقراء ظاهريًا أن الإمام البخاري اعتمد على السند فقط، ولكن الحقيقة ليست كذلك. فقد سمع أكثر من مائة من تلاميذ الإمام مالك كتاب الموطأ كاملاً وكتبوه. وكانت نسخة الموطأ المكتوبة هذه تُباع آنذاك في الأسواق عند الوراقين أو تجار الكتب الخطية. ولو كان الإمام البخاري قد اقتبس الحديث من نسخة مخطوطة اشتراها وذكر ذلك في سنده، لُقِيَ نقدٌ شديدٌ من أهل الحديث وأُعتبر نقله ضعيفًا وغير مقبول.
كان الصحابة عادةً يحفظون الأحاديث، وكتبوا بعضها أحيانًا. والملاحظ هنا أن الصحابة لم يكونوا بحاجة ماسة إلى تدوين الأحاديث، إذ أن معظمهم لم يروِ أكثر من ٢٠-٣٠ حديثًا. بلغ عدد الصحابة الذين رووا الأحاديث حوالي ١٥٠٠ صحابي فقط، منهم ٣٨ صحابيًا رووا أكثر من مئة حديث. ومن هؤلاء، رُوي عن ٧ صحابة فقط أكثر من ألف حديث، بينما رُوي عن الـ٣١ الباقين ما بين مئة إلى بضع مئات من الأحاديث. أما بقية الصحابة، فروى معظمهم ما بين حديث واحد إلى ٣٠ حديثًا. [ابن حزم، علي بن أحمد (٤٥٦هـ)، أسماء الصحابة الرواة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط١، ١٩٩٢).]
لم تكن هناك حاجة لكتابة ٢٠-٣٠ حديثًا، أو حتى مئة أو ألف قول أو حدث من ذكريات الصحابة مع النبي ﷺ. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن في حياتهم ما يشغلهم عن هذا الأمر. فقد كان تذكر النبي ﷺ، وتنفيذ أوامره بدقة، والاقتداء به، ونقل أقواله إلى الناس من أهم أعمال حياتهم. ولم تكن المشاغل الدنيوية تشغل أذهانهم. فإذا كانت الذكريات والأقوال حاضرة دائمًا في الذهن والسلوك، فما الحاجة إلى كتابتها على الورق؟ ومع ذلك، فقد كتب العديد من الصحابة أحاديثهم المحفوظة في مخطوطات وحافظوا عليها. [محمد عجاج الخطيب، السنة قبل التدوين (القاهرة: مكتبة وهبة، ط١، ١٩٦٣)، ص ٣٠٣-٣٢١.]