আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট এ আপনাকে স্বাগতম

সাম্প্রতিক আপডেট

05/03/2025, 08:58:54 AM عربي

العيد المقدس ميلاد النبي

News Image

العيد المقدس ميلاد النبي

عيد المولد النبوي الشريف (صلى الله عليه وسلم):
مراجعة تاريخية
هذا المقال كتبه الدكتور خندكار عبد الله جاهنغير
ونُشر في مجلة المؤسسة الإسلامية – عدد إبريل-يونيو 2003،
وأُعيد نشره في عدد إبريل-يونيو 2004.

أبدأ باسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي له الحمد كله. والصلاة والسلام على الرسول العظيم، حبيب الله وسفير الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يُعَدُّ "عيد المولد النبوي الشريف" من أبرز الأعياد لدى أمة الإسلام في عالم اليوم. ففي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الهجرية، يحتفل معظم المسلمين في أنحاء العالم بهذا العيد الذي يُعتقد أنه يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بإظهار الفرح والاحترام والتعظيم.

ولكن، فإن الغالبية العظمى من المسلمين لا يعرفون شيئًا عن أصل هذا "العيد" وتطوره التاريخي. كما أن الشخصيات التي ساهمت في إدخال هذا الاحتفال بين المسلمين لا تزال مجهولة عند الكثيرين.

في هذا المقال، سأحاول مناقشة هذه المواضيع المذكورة.

١) المولد النبوي: تعريفه
أ) معنى كلمة "ميلاد" وتفسيرها:

المعنى اللغوي لكلمة "ميلاد" هو: وقت الولادة. وتُستخدم كلمة "مولد" بهذا المعنى أيضًا
(انظر: د. إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، بيروت: دار الفكر، ٢/١٠٥٦).
وكتب العلّامة ابن منظور في معجمه الشهير لسان العرب:
«ميلاد الرجل: اسم الوقت الذي وُلد فيه»،
أي: وقت ولادة الشخص يسمى ميلادًا
(ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، ٣/٤٦٨).

ومن الطبيعي أن المسلمين لا يقصدون بكلمة "المولد" أو "المولد النبوي" مجرد الحديث عن وقت ولادة النبي ﷺ أو ذكر قصة ولادته فقط، بل يقصدون بذلك إقامة احتفال خاص بيوم ولادته ﷺ بطريقة معينة.
وفي هذا المقال، فإننا نقصد بكلمة "المولد" أو "عيد المولد النبوي" الاحتفال بيوم ولادة رسول الله ﷺ.

وكل تعبير عن الفرح بمناسبة ولادته ﷺ، سواء كان في يوم ميلاده أو في أي يوم آخر متعلق بولادته، من خلال إقامة المناسبات والاحتفالات، يدخل في مفهوم "المولد" بحسب استخدام الناس.

أما مجرد قراءة سيرته ﷺ، أو الحديث عن حياته، أو بيان سنّته وشريعته، أو رواية أحاديثه، أو ذكر صفاته الخَلقية والخُلقية، أو إرسال الصلاة والسلام عليه فرادى أو جماعة، فليس هذا مما يُطلق عليه "المولد" عادةً في عرف المسلمين.
فالمقصود بالمولد أو عيد المولد النبوي هو إقامة احتفال بمناسبة ولادته ﷺ. وسنحاول في هذا المقال دراسة الجوانب التاريخية لهذا الاحتفال.

ب) "المولد" أو يوم ولادة رسول الله ﷺ:

نظرًا لأن احتفال "المولد" يتمحور حول إحياء ذكرى مولد رسول الله ﷺ، فمن الطبيعي أن نبدأ أولاً بمعرفة يوم ولادته ﷺ. وكما هي العادة، فإننا نبدأ كل نقاش إسلامي بنور من القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ.

ولكننا نجد أن القرآن الكريم لم يذكر شيئًا عن "مولد" رسول الله ﷺ، أي عن يوم ولادته أو وقت ولادته أو أي احتفال أو إحياء لذكرى ميلاده ﷺ.
نعم، قد ذُكرت في القرآن أحداث تتعلق بولادة بعض الأنبياء السابقين، ولكن لم يُذكر في أي موضع يوم أو تاريخ أو شهر ولادتهم.

وبالمثل، لا يوجد في القرآن أي أمر أو تشجيع أو توجيه لإقامة احتفال بمناسبة ميلاد أي أحد، أو عقد مجالس لذكرى المولد، أو التعبير عن الفرح والسرور بسبب الولادة.
بل إنما ذكرت هذه الأحداث في القرآن الكريم لتعظيم الله سبحانه وتعالى، ولأخذ العبرة والعظة منها فقط، دون الإخلال بالتوجه الإيماني.

لذلك، في مناقشتنا لمسألة يوم مولد رسول الله ﷺ، فإننا نعتمد أساسًا على الأحاديث الشريفة، وكذلك على آراء المؤرخين والعلماء المسلمين في العصور التالية.

ذِكرُ يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:

نعني بالحديث ما نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، أو ما أُسند إليه من وصفٍ. كما يُطلق الحديث أيضًا على أقوال وأفعال وتقريرات الصحابة رضي الله عنهم. في القرنين الثاني والثالث الهجريين، جُمعت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وآراء أصحابه بأسانيدها في أكثر من خمسين كتابًا، من بينها ستة كتب مشهورة موثوقة تُعرف باسم "الكتب الستة". من هذه الأحاديث الواردة في تلك الكتب نستخلص المعلومات التالية حول يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم:

١) يوم الميلاد:

ورد في الحديث الشريف عن يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صيام يوم الإثنين، فقال: "ذلك يومٌ وُلدتُ فيه، ويومٌ بُعثتُ أو أُنزل عليّ فيه".
(صحيح مسلم، الجزء ٢، ص ٨١٩، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة)

وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال:

"وُلدَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، واستُنبئ يوم الإثنين، وتُوفي يوم الإثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين".
(مسند أحمد، ج ٤، ص ١٧٢-١٧٣، رقم ٢٥٠٦، دار المعارف، مصر، وقد صحح السند أحمد شاكر)

وفي حديث آخر عن صوم يوم الإثنين:

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له في ذلك، فقال: "إن الأعمال تُعرض كل إثنين وخميس، فيغفر الله لكل مسلم أو مؤمن، إلا المتهاجرين، فيقول: أخرهما".
(مسند أحمد، ج ١٦، ص ١٥٥، رقم ٨٣٤٣، وقال أحمد شاكر: سنده صحيح)

وفي رواية الترمذي:

"تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم".
(سنن الترمذي، ج ٣، ص ١٢٢، رقم ٧٤٧، دار الكتب العلمية، بيروت، وقال الترمذي: حسن غريب)

فمن هذه الأحاديث الصحيحة نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وُلد يوم الإثنين. وقد اتفق معظم المؤرخين، في ضوء هذه الأحاديث، على أن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين. وقال بعضهم إنه وُلد يوم الجمعة، لكن هذا القول غير مقبول لمخالفته لما ورد في الأحاديث الصحيحة. كما أن بعض التابعين امتنعوا عن الجزم بيوم الميلاد، ربما لعدم معرفتهم بهذه الأحاديث أو لترددهم في إثبات تاريخ الميلاد.
(انظر: ابن رجب، لطائف المعارف، ج ١، ص ١٤٧، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، ١٤١٨ هـ / ١٩٩٧ م)

٢) سَنَةُ المِيلَاد:

ورد في شأن سنة ولادة النبي ﷺ ما يلي:

عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ. وَسَأَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ أَخَا بَنِي يَعْمَرَ بْنِ لَيْثٍ: أَأَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ. وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ.
رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.

سنة الفيل هي السنة التي غزا فيها أبرهة الكعبة بأفياله لهدمها. وقد ذكر المؤرخون أن تلك السنة كانت سنة 570 أو 571 ميلادية.
انظر: أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة، (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الرابعة 1993م)، 1/96–98؛
ومهدي رزق الله أحمد، السيرة النبوية، (الرياض: مركز الملك فيصل، الطبعة الأولى، 1992م)، ص109–110.

٣) شَهْرُ الْوِلَادَةِ وَتَارِيخُهَا:
بهذا نستطيع أن نعرف سنةَ ميلادِ رسول الله ﷺ ويومَهُ في ضوء الأحاديث الشريفة، ولكن لا يوجد في أي حديث نبوي ما يدلّ على شهر الميلاد أو تاريخه. ولهذا السبب، اختلف العلماء والمؤرخون في تحديد تاريخ مولده ﷺ.

تاريخ ميلاد رسول الله ﷺ: آراء العلماء والمؤرخين

بما أنه لم يرد في الأحاديث النبوية أو في كلام الصحابة ما يدلّ على تاريخ محدد لميلاد رسول الله ﷺ، فقد اختلف المؤرخون المسلمون في ذلك، وذكر كل من ابن هشام، وابن سعد، وابن كثير، والقسطلاني، وغيرهم من المؤرخين والكتّاب في السيرة النبوية الآراء التالية:

١. رأى بعضهم أن تاريخ ولادته غير معروف ولا يمكن معرفته، وأن الذي عُرف فقط هو أنه وُلد يوم الاثنين. أما تحديد الشهر واليوم فهو أمر غير ضروري عندهم.
٢. وقال بعضهم: وُلد في شهر المحرّم.
٣. وقال آخرون: في شهر صفر.
٤. وقال بعضهم: في الثاني من ربيع الأول. وقد تبنّى هذا الرأي المحدث أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي (ت ١٧٠هـ).
٥. وقال فريق: في الثامن من ربيع الأول. ورجّحه القسطلاني والزرکاني، ونقلوه عن الصحابيين ابن عباس وجبير بن مطعم رضي الله عنهما.
٦. وقال بعضهم: في العاشر من ربيع الأول. ورواه محمد بن علي الباقر (ت ١١٤هـ) والشعبي (ت ١٠٤هـ)، ومال إليه الواقدي (ت ٢٠٧هـ).
٧. وقال ابن إسحاق (ت ١٥١هـ): وُلد في الثاني عشر من ربيع الأول في عام الفيل، لكنه لم يذكر له سندًا، ولهذا ضعّفه بعض الباحثين. ورغم ذلك، صار هذا الرأي هو الأشهر.
٨. وقال بعضهم: في السابع عشر من ربيع الأول.
٩. وقال آخرون: في الثاني والعشرين من ربيع الأول.
١٠. وقال فريق: في شهر ربيع الآخر.
١١. وقيل: في شهر رجب.
١٢. وقال الزبير بن بكار (ت ٢٥٦هـ): وُلد في شهر رمضان، واستدلّ بأن البعثة كانت في رمضان عند بلوغه الأربعين.

وقد ذكر الإمام القسطلاني أن رواية عبد الله بن عمر في ذلك غير صحيحة.

٢) الاحتفال بمولد النبي ﷺ أو يوم ولادته:

أ) تمهيد:

من خلال ما سبق من مناقشات، علمنا آراء المحدثين والمؤرخين حول يوم ومكان ووقت ولادة رسول الله ﷺ. ومن خلال هذا الاختلاف في تحديد يوم ميلاده، نستطيع أن نستنتج بسهولة أنه لم يكن هناك احتفال بمولد النبي ﷺ في القرون الأولى من الإسلام، بين الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وإلا لما كان هناك مجال لهذا الخلاف. وقد أثبتت بحوث المحدثين والفقهاء والمؤرخين صحة هذا الاستنتاج.

ونحن نعلم أن هناك خلافًا بين العلماء حول جواز أو عدم جواز الاحتفال بـ"عيد المولد النبوي" في شهر ربيع الأول، لكن جميع العلماء والباحثين، سواء المؤيدين أو المعارضين للاحتفال بالمولد، متفقون على أنه لم يكن هناك أي وجود أو ممارسة لمثل هذا الاحتفال في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى. فقد كتب الحافظ ابن حجر العسقلاني (توفي ٨٥٢هـ / ١٤٤٩م):
"الاحتفال بالمولد بدعة، فلم يُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى فعله."
(الصالحي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، السيرة الشامية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٣م، ١/٣٦٦)

وكتب المحدث والمؤرخ الشهير في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، العلامة أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي (توفي ٩٠٢هـ / ١٤٩٧م):
"لم يُنقل عن أحد من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الاحتفال بالمولد، وإنما حدث بعدهم. ثم بدأ المسلمون في جميع البلدان والمدن الكبرى بالاحتفال بشهر ولادته ﷺ، بتنظيم ولائم وزيارات وصدقات ومظاهر الفرح، وتلاوة قصة ولادته في هذه الليالي."
(الصالحي، السيرة، ١/٣٦٢)

وكتب العلامة الشهير من لاهور، السيد دِلدَار علي (١٩٣٥م)، في دفاعه عن المولد:
"لا يوجد أصل أو مصدر للاحتفال بالمولد في أقوال أو أفعال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، بل تم ابتداعه بعد عصرهم."
(السيد دلدَار علي، رسول الكلام في المولد والقيام، لاهور، ص ١٥)

وسبب هذا الاتفاق بين العلماء هو أنه لا يوجد في أكثر من خمسين كتابًا من كتب الحديث المسندة التي جُمعت في القرون الثانية والثالثة والرابعة – والتي تحتوي على أدق تفاصيل حياة رسول الله ﷺ، من أقواله وأفعاله وإقراراته وصفاته وآراء الصحابة والتابعين – أي حديث صحيح أو ضعيف يشير إلى أن أحدًا من الصحابة احتفل بمولد النبي ﷺ في حياته أو بعد وفاته، لا فرديًا ولا جماعيًا، ولا قام بأي نوع من الطقوس أو الاحتفالات في هذا السياق.

وقد كان رسول الله ﷺ محورَ تفكيرهم ومحبتهم، تحدثوا عن كل صغيرة وكبيرة من حياته، وبكوا شوقًا له، وتحدثوا عن شكله ولباسه بشغف ومحبة، لكنهم لم يحتفلوا بيوم ميلاده أبدًا، ولم يجلسوا لمناقشة أحداث ولادته، ولم يُظهروا الفرح عبر صدقات أو تلاوات خاصة في هذا اليوم.

والحقيقة أن مسألة الاحتفال بمولد أو وفاة أحد لم تكن معروفة للعرب آنذاك. بل كان الاحتفال بالمولد عادةً أعجمية. لم يكن المسلمون الأوائل على علم بها. فقد كانت جزءًا من الثقافة الدينية والاجتماعية للمجوس الفرس والمسيحيين البيزنطيين. لكن في القرنين الأول والثاني الهجري، اتبع المسلمون الجدد من بلاد فارس والشام ومصر وآسيا الصغرى الصحابةَ في كل شيء، وفضّلوا العادات العربية.

أما من القرن الثالث الهجري، ومع بروز نفوذ المسلمين غير العرب كالفُرس والأتراك في الدولة الإسلامية، بدأ ظهور عادات دينية واجتماعية جديدة، ومن بينها الاحتفال بالمولد النبوي.

(ب) الاحتفال بالمولد النبوي: النشأة الأولية والاحتفال المحدود

لقد علمنا أن الاحتفال بالمولد النبوي أو عيد المولد لم يبدأ في العصور الأولى، فمتى بدأ؟ ومن الذي ابتدأه؟ تعالوا نتعرف عليهم ونحاول معرفة كيف كانوا يحتفلون بهذه المناسبة.

بحسب ما وصل إلينا من التاريخ، فإن بداية الاحتفال الاجتماعي بأي يوم غير العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) بدأت في منتصف القرن الرابع الهجري بمبادرة من الشيعة. فأول من أمر بالاحتفال بيومي عاشوراء (كيوم حزن) ويوم غدير خم (كيوم فرح) بشكل رسمي واجتماعي هو الحاكم الشيعي معز الدولة من بني بويه، الذي كان الحاكم الفعلي للدولة العباسية ببغداد، وذلك سنة ٣٥٢هـ (٩٦٣م). وبأمره تم الاحتفال بهذين اليومين رسمياً ومجتمعياً. ومع أن الشيعة وحدهم شاركوا في هذا الاحتفال، إلا أنه أخذ طابعاً اجتماعياً، بسبب الرعاية الرسمية له، ولم يتمكن أهل السنة والجماعة الذين كانوا يشكلون الأغلبية من منعه في العام الأول. واستمر هذا الاحتفال طالما كان للشيعة نفوذ، رغم أنه أدى في بعض الأحيان إلى صراعات وحروب أهلية بين السنة والشيعة.
(انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ٧/٦٤٢، ٦٥٣، ٨/٣، ٩، ١١، ١٥، ١٦، ١٧...)

أما في ما يخص الاحتفال بالمولد النبوي، فقد كان للشيعة أيضًا دور ريادي فيه. فالشيعة الإسماعيلية الرافضية من بني عبيد (الذين يعتبرون أسلاف الإسماعيليين الآغاخانيين والبوهرة والباطنيين) أسسوا دولة باسم الفاطميين في شمال إفريقيا. وقد استولوا على مصر سنة ٣٥٨هـ (٩٦٩م) وجعلوها مركزاً لدولتهم الفاطمية، واستمر حكمهم فيها لأكثر من قرنين من الزمان. وقد انتهى حكم الفاطميين في مصر عندما سيطر عليها السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٦٧هـ (١١٧٢م).
(انظر: محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى ١٩٨٥م، ٦/١١١-١١٢، ١٢٣-١٢٤، ١٣٦-١٣٧، ١٦٥-١٦٨، ١٨٠-١٨٢، ١٩٣-١٩٦، ٢٠٨-٢٠٩، ٢٣٣، ٢٤٨، ٢٦٥، ٢٨٧-٢٨٩، ٣٠٣-٣٠٧)

وخلال فترة حكمهم التي استمرت قرنين، كان الحكام الشيعة الإسماعيليون في مصر يحتفلون بعدة أيام غير العيدين الرسميين (عيد الفطر وعيد الأضحى)، وكان معظم هذه الأيام مناسبات ميلاد. وكانوا يحتفلون بخمسة مواليد رئيسية:
١) مولد رسول الله ﷺ،
٢) مولد علي رضي الله عنه،
٣) مولد فاطمة رضي الله عنها،
٤) مولد الحسن رضي الله عنه،
٥) مولد الحسين رضي الله عنه.

كما كانوا يحتفلون بمولد الخليفة الحي، ويحتفلون أيضاً بمولد عيسى عليه السلام (المعروف بعيد الميلاد أو الكريسماس) الذي كان يحتفل به نصارى مصر، وكانوا يفرحون فيه ويوزعون الحلوى والهدايا.
(انظر: المقريزي، أحمد بن علي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ص: ٤٩٠-٤٩٥)

ج) الاحتفال الأولي بالمولد النبوي: الحقبة والمُبتدِعون:

بدأ هذا الاحتفال في مصر منذ منتصف القرن الرابع الهجري. وقد وصف المؤرخون هذه الحقبة بأنها حقبة ضعف الخلافة العباسية. فقد انتهت المرحلة الأولى من الخلافة العباسية بوفاة الخليفة العباسي التاسع، الواثق بالله، سنة 232هـ (847م). ومنذ ذلك الحين، بدأت حالة من عدم الاستقرار السياسي والانحطاط الاقتصادي والثقافي في الدولة الإسلامية، وذلك بسبب ضعف الإدارة المركزية. فتفرقت الدولة العظيمة إلى دويلات صغيرة، وشهدت هذه الدويلات حروباً مستمرة فيما بينها. وبسبب ضعف الحكومة المركزية، نشطت العصابات المسلحة في النهب والسلب، مما أدى إلى تدهور الأمن الاجتماعي.

ومنذ سنة 334هـ (945م)، استولى بنو بويه الشيعة على السلطة في بغداد، فأصبحوا أصحاب القرار الفعليين، مما أدى إلى ضعف كبير في متابعة العلم الشرعي، واتباع السنة النبوية، وانتشر مذهب الرافضة بين الناس. وفي المقابل، كان أهل السنة في غالبيتهم مستائين من تجاوزات الشيعة، مما أدى إلى احتجاجات تحولت في كثير من الأحيان إلى صراعات طائفية وحروب أهلية. وقد أسهمت هذه الصراعات في تدهور الوضع العام في البلاد، وأدت الفوضى الداخلية والاختلاف إلى فتح المجال أمام الأعداء الخارجيين.

فاستغل حكام نصرانيون من آسيا الصغرى وأرمينيا وآسيا الوسطى الفرصة لشن الغارات على الدولة الإسلامية. كما قاموا ببث الشائعات والدعايات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين. وفي ظل هذا الوضع، تراجعت الحركة العلمية والقيم الدينية، وازدهرت مظاهر الترف والمعاصي، وانتشرت الطقوس والعادات المخالفة للإسلام والخرافات والانحرافات في المجتمع.

(انظر بتفصيل: ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء السابع؛ محمود شاكر، التاريخ الإسلامي، الجزء الخامس والسادس)

في هذا العصر، وفي أحد الأجزاء المتفرقة من الدولة الإسلامية، وتحديداً في مصر، بدأ الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إلى جانب احتفالات أخرى بأيام الولادة، وابتكر طقوساً جديدة بمناسبة تلك الأعياد. وكان جده الأعلى، عبيد الله، هو أول من ادعى في المغرب أنه من نسل إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق، رغم أن غالبية المؤرخين متفقون على أن هذا الادعاء باطل، وأنه كان من أهل المغرب، وذكر بعض المؤرخين أن والده كان يهودياً. وقد ادعى أن الإمامة في المذهب الشيعي الإسماعيلي انتقلت إليه من إسماعيل، وادعى أيضاً أنه المهدي المنتظر.

وفي نهاية القرن الثالث الهجري (297هـ)، تمكن من تأسيس دولة في المغرب. وكبقية الرافضة، كان يدعو إلى سب الصحابة ونشر عقيدة إمامة آل البيت. وخلفه ابنه القائم، ثم المنصور بن القائم، ثم ابنه المعز لدين الله، واسمه الحقيقي أبو تميم معد بن المنصور، الذي حكم الدولة الإسماعيلية بالمغرب.

(انظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج15، ص141-159؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص191-198؛ الموسوعة الميسرة، ص45-52)

ولد المعز سنة 319هـ، وتولى الحكم بعد وفاة والده سنة 341هـ. فأمر قائده العسكري جوهر الصقلي بالسيطرة على مناطق المغرب، ثم استولى جوهر على مصر سنة 358هـ، وأسّس مدينة القاهرة. وتمكن من إخضاع مناطق من الشام والحجاز لحكمه، ودخل القاهرة سنة 362هـ (972م)، واتخذها عاصمة له. وتوفي سنة 365هـ. وكان من أبرز مظاهر حكمه إدخال الاحتفالات الشيعية إلى مصر، وعلى رأسها الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.

كان المعز رجلاً مثقفاً، ذا عزيمة وشجاعة، وشاعراً محباً للأدب. قال الإمام الذهبي: "كان عاقلاً، حكيماً، ذا همة، حليماً، كريماً، شريفاً، محباً للعلم، عادلاً في الجملة، لولا بدعة التشيع وسب الصحابة، لكان من خيرة الملوك."
(الذهبي، سير أعلام النبلاء، 15/164؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، 5/224-228؛ الزركلي، الأعلام، 7/265)

استمرت هذه الاحتفالات في القاهرة في أوساط الشيعة الفاطميين قرابة مئة عام بعد المعز. وبعد وفاة الخليفة المستنصر بالله سنة 487هـ (1094م)، تولى الحكم ابنه الأصغر المستعلي، وعمره 21 سنة، بدعم من القائد العسكري الأفضل بن بدر الجمالي، الذي أصبح الحاكم الفعلي. وفي سنة 488هـ، أمر بإيقاف الاحتفالات بالمولد النبوي وغيرها من أعياد الميلاد. وقد أعاد بعض الخلفاء الفاطميين هذه الاحتفالات بعده بشكل محدود، لكنها فقدت بريقها تدريجياً مع انحسار نفوذ الدولة الفاطمية.

(انظر: عزت علي عطية، البداية، ص411؛ إسماعيل الأنصاري، القول الفصل، ص64-72)

(غ) الاحتفالُ الأوَّليُّ بالمولد النبوي: وصفُ المناسبة

كتب أحمد بن علي القلقشندي (ت ٨٢١هـ):
«كان الخلفاء الفاطميون يحتفلون بالمولد النبوي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول. وكان من عادتهم إعداد كميات كبيرة من الحلوى الفاخرة، تُوضع في ثلاثمائة صينية نحاسية. وفي ليلة المولد، تُوزَّع تلك الحلوى على جميع المسؤولين الرسميين المسجَّلين، مثل القاضي القضاة، والداعي الدُعاة، والحرفيين في القصر، وخطباء وأئمة المساجد المختلفة، والمشرفين على المؤسسات الدينية.
وكان الخليفة يجلس في شرفة أمام قصره. وبعد صلاة العصر، يذهب القاضي مع أصناف مختلفة من المسؤولين إلى الجامع الأزهر، ويبقون هناك مدة تلاوة ختمة من القرآن الكريم. وكان الضيوف الكبار يجلسون في المكان بين المسجد والقصر منتظرين لتحية الخليفة.
وفي ذلك الوقت، يُفتح نافذة الشرفة، ويُحيِّي الخليفة الحاضرين بيده. ثم يُتلى القرآن من قِبَل القرّاء، ويُلقي الخطباء خطبهم.
وعند انتهاء الخطب، يُلوِّح أصحاب الخليفة بأيديهم لتحية الوداع، وتُغلق النافذة، ويعود كل واحد إلى بيته.
وكانوا يحتفلون بهذه الطريقة أيضًا بمولد الإمام علي رضي الله عنه...»
(القلقشندي، صبح الأعشى، وزارة الثقافة – مصر، ٣/٤٩٨-٤٩٩)

وكتب أحمد بن علي المقريزي (ت ٨٤٥هـ) في وصف تلك الاحتفالات:
«كانت هذه الاحتفالات بالمولد من أكبر وأعظم الأعياد عندهم. وكان الناس يصنعون التذكارات من الذهب والفضة، ويُحضِّرون أصنافًا من الطعام والحلوى، ثم يوزعونها.»
(المقريزي، المواعظ والاعتبار، المصدر السابق، ص ٤٩١)

٣) الاحتفال بالمولد النبوي: البداية الحقيقية والانتشار الواسع:
من خلال ذلك نرى أن الاحتفال بالمولد النبوي بدأ منذ القرن الرابع الهجري. ومع ذلك، من الجدير بالملاحظة أن هذا الاحتفال في القاهرة لم ينتشر في باقي العالم الإسلامي. ومن المحتمل أن يكون سبب ذلك هو الكراهية الشديدة التي كان يشعر بها المجتمع المسلم العام تجاه الشيعة الإسماعيلية الفاطميين، فلم تحظَ هذه الاحتفالات بشعبية في المناطق السنية الأخرى، ولم تتحول إلى مهرجان اجتماعي.
لكن من وصف المؤرخين نعلم أن منذ النصف الثاني من القرن السادس الهجري (٥٥٠-٦٠٠هـ) بدأ نصف أو ثلث سكان مصر وسوريا والعراق المتدينين يحتفلون سنويًا في بداية شهر ربيع الأول، في اليوم الثامن أو الثاني عشر من الشهر، بعقد مجالس الطعام والشراب والتعبير عن الفرح بمناسبة "عيد المولد النبوي".
(الصالحي، السير الشامية، المصدر السابق، ١/٣٦٣، ٣٦٥)

أما الذي يُعتبر أكثر الأشخاص شهرةً كمؤسس لعيد المولد النبوي، والذي يُنسب إليه الفضل في تأسيسه كأحد الأعياد الرئيسية في العالم الإسلامي، فهو حاكم منطقة أربيل في العراق، حضرة أبو سعيد كوكبوري (توفي ٦٣٠ هـ).
في الصفحات القادمة سنناقش سيرته وطريقته في الاحتفال بالمولد النبوي، ولكن قبل ذلك سنتحدث عن العصر الذي عاش فيه وضمنه بدأ نشر هذا الاحتفال.

أ) تعريف العصر: القرن السادس والسابع الهجري:
لقد ناقشنا سابقاً حالة العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري. في الوقت التالي تدهورت الأحوال أكثر. الفترة من منتصف القرن السادس الهجري إلى منتصف القرن السابع الهجري كانت حقبة عصيبة ومؤلمة في تاريخ الأمة الإسلامية. في هذا الوقت، تعرضت معظم مناطق الدولة الإسلامية العظيمة للدمار بسبب الضعف الداخلي وهجمات الأعداء الخارجيين.

عند منتصف القرن السادس الهجري نرى أن هناك مشكلة صعبة أخرى إلى جانب المشاكل الداخلية، وهي هجوم الأعداء الخارجيين، خصوصاً هجمات الصليبيين الأوروبيين من الغرب وهجمات التتار والمغول من الشرق.

بدأت الحروب الصليبية في أواخر القرن الخامس الهجري (أي القرن الحادي عشر الميلادي). منذ ظهور الإسلام، بدأ رجال الدين المسيحيون في أوروبا المظلمة بشن حملات دعائية ضد الإسلام والمسلمين بطرق مختلفة، متهمين المسلمين بالشرك، وعبادة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأكل لحم البشر، واحتقار السيد المسيح، وغير ذلك من الأكاذيب التي انتشرت في أوروبا بأسرها.
بالإضافة إلى ذلك، أدت فتوح المسلمين في الأندلس وأجزاء من الإمبراطورية البيزنطية الشرقية إلى إثارة خوف حكام أوروبا المسيحيين. فقد نسوا خلافاتهم الدينية والسياسية والعرقية، واتحدوا تحت قيادة البابا، وأرسلوا جيوشًا أوروبية موحدة مكونة من ملايين الجنود لاسترداد الأرض المقدسة في فلسطين، وشنوا هجمات على الدولة الإسلامية.
في سنة ٤٩١ و ٤٩٢ هـ (١٠٩٧ و ١٠٩٨ م) هاجمت أولى جيوش الحملة الصليبية، التي ضمت أكثر من مليون جندي نظامي ومتطوع، آسيا الصغرى وسوريا والدول الإسلامية المختلفة في المنطقة. وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل أكثر من عشرين ألف مدني مسلم، حيث قام الصليبيون بقتل النساء والرجال والأطفال بلا تمييز، كما دمروا الحقول والمحاصيل.
عبر هذه الهجمات، استولى المسيحيون على عدة دول في آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين، وأسسوا بعض الممالك المسيحية فيها.
(محمود شاكر، المصدر السابق، ٦/٣٤-٣٨، ٢٥٢-٢٥٧)

تاريخ المائتي عام التالية هو تاريخ الهجمات المتتالية للجيوش المسيحية الأوروبية وتاريخ المقاومة الإسلامية. في هذه الفترة، أسس المسيحيون دولاً مسيحية في مناطق مختلفة من مصر وسوريا والعراق. حاول الحكام المسلمون المنقسمون بذورياً مقاومة هذه الهجمات بطرق مختلفة، وفي نهاية القرن السادس الهجري قضى صلاح الدين الأيوبي على معظم الدول المسيحية وأطاح بها، وطرد الصليبيين من فلسطين ومعظم الأراضي العربية. (المصدر السابق ٦/٢٥٩-٣٥٦) ومع ذلك، بقيت بعض الدول المسيحية الصغيرة للصليبيين في مصر وسوريا ولبنان. علاوة على ذلك، استمر وصول جيوش الصليبيين من أوروبا بين الحين والآخر وشن الهجمات على مختلف المناطق الإسلامية. (انظر التفاصيل: يحيى بن سعيد الجبائي، "العبَر في أخبار من غبر" (بيروت، دار الكتب العلمية) ٣/١٢٨-٣١٢)

في الوقت الذي كان المسلمون فيه يحررون المناطق الإسلامية من قبضة جيوش الصليبيين الغازية، بدأت هجمات التتار الوحشية من شرق الإمبراطورية الإسلامية في بداية القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي). تحت قيادة جنكيز خان، بدأ جيش التتار أول هجوم له على شرق الدولة الإسلامية حوالي سنة ٦٠٦ هـ (١٢٠٩ م). وسرعان ما شنت قوات التتار هجمات متتالية على مختلف المناطق الإسلامية وقاموا بتدميرها. في هذه الهجمات الوحشية، قتل التتار جميع سكان هذه المناطق بلا تمييز. في الحقيقة، دمرت قوات التتار معظم المناطق الإسلامية في آسيا الوسطى وفارس والعراق وسوريا وآسيا الصغرى بشكل حرفي. قال المؤرخ العلامة يحيى الجبائي (توفي ٧٤٨ هـ): "السؤال حول عدد الذين قتلهم التتار في هذه المناطق هو سؤال غير مجدٍ ولا معنى له، بل يجب أن يُسأل كم عدد الذين تركوا أحياء دون أن يُقتلوا." (الجبائي، المصدر السابق، ٣/١٧٢) في سنة ٦٥٦ هـ (١٢٥٨ م)، بقيادة هولاكو خان، دمر التتار مركز الدولة الإسلامية وعاصمتها بغداد. خلال أربعين يوماً من المجازر الجماعية، قتلوا حوالي مليوني نسمة من سكان بغداد. (محمود شاكر، المصدر السابق، ٦/٣٩-٤١، ٣٤٥-٣٥٦؛ الجبائي، "العبَر"، المصدر السابق، ٣/٢٧٨) وكتب المؤرخ العلامة الجبائي (توفي ٧٤٨ هـ): "أمر هولاكو بعدد الجثث المقتولة. فبلغ عدد الجثث أكثر من مليون وثمانمائة ألف. ثم، بعد أن رضي عن عدد القتلى، أمر هولاكو بإيقاف القتل وإعلان الهدنة." (الجبائي، "العبَر"، المصدر السابق، ٣/٢٨٧)

إلى جانب الأعداء الخارجيين، أدت الخلافات والصراعات الداخلية والضعف في هذا العصر إلى إحداث دمار في المجتمعات الإسلامية. رغم أن بعض الحكام الإقليميين تمكنوا من تحقيق قدر من السلام والنظام والاستقرار في مناطقهم، إلا أن النظام العام في الإمبراطورية الإسلامية الكبرى شهد تدهوراً شديداً. (انظر التفاصيل: الجبائي، "العبَر"، المصدر السابق، ٣/١١-٢٨٥)

في القرن التالي، كتب المؤرخ المشهور العلامة ابن كثير (774هـ)، الذي عاصر هذه الأحداث عن كثب، وصفًا مروعًا لوحشية التتار فقال:
"في سنة 617هـ (1220م) اجتاحت جيوش جنكيز خان الوحشية العالم الإسلامي كله. خلال سنة واحدة، استولوا على معظم المناطق الإسلامية (باستثناء بغداد والمناطق المجاورة). … في هذه السنة قتلوا أعدادًا لا تحصى من المسلمين وغيرهم في مدن كبيرة متعددة. وبوجه عام، قتلوا كل الرجال القادرين في كل أرض دخلوا إليها، بالإضافة إلى كثير من النساء والأطفال. وقتلوا النساء الحوامل وفتحوا بطونهن لقتل الأجنة. نهبوا كل ما يحتاجون إليه، وأحرقوا ما لا يحتاجون إليه. دمروا البيوت أو أحرقوها. … لم يرَ البشر منذ بداية الحضارة مثل هذه الكارثة الرهيبة… ولا يوجد في التاريخ وصف لمثل هذه الوحشية الكبيرة."
(ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر 8/594-595)

هكذا، اجتاحت هجمات التتار، وهجمات الصليبيين، والانهيار العام للنظام القانوني، العالم الإسلامي كله بطريقة جعلت المسلمين بعد سنة 628هـ (1231م) غير قادرين على أداء الركن الخامس من الإسلام، الحج. وكتب ابن كثير:
"في سنة 628هـ قام الناس بأداء الحج، وبعد ذلك لم يتمكن أحد من الذهاب إلى الحج بسبب الحروب، وخوف التتار والصليبيين. إنا لله وإنا إليه راجعون."
(ابن كثير، المصدر 9/10)

وبسبب إهمال الانضباط الإسلامي، وانتشار المعاصي، وضعف الإدارة، وطغيان الظلم، أصابت ضعف الإيمان المسلمين، وسيطر عليهم خوف التتار. وكتب ابن كثير:
"كان خوف التتار عظيمًا لدرجة أن جنديًا تتريًا دخل سوقًا يملؤه أكثر من مائة شخص، فقتلهم واحدًا تلو الآخر ونهب السوق، ولم يجرؤ أحد من الرجال على منعه من هذا المجزرة."
(ابن كثير، المصدر 8/597)

هكذا نرى أن المجتمع المسلم في القرنين السادس والسابع الهجريين كان يعاني من اضطرابات اجتماعية، واقتصادية، وسياسية شديدة، مما أدى إلى جمود وانحطاط في المجالات الدينية، والتعليمية، والثقافية. بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حدث جمود في الحقل الثقافي والتعليمي. ومع قيام دول مسيحية مختلفة داخل الإمبراطورية الإسلامية، تأثر المسلمون بعادات وتقاليد دينية واجتماعية مسيحية متنوعة. ومن جهة أخرى، استولى التتار الشرقيون وغيرهم من الكفار على مناطق متعددة في الإمبراطورية الإسلامية وأسسوا دولًا، ودخلت عاداتهم ومعتقداتهم الخاطئة المجتمع المسلم.

وبالأخص بسبب الجمود في مجال التعليم، انتشرت الأمية، وسوء التعليم، والخرافات بشكل واسع في المجتمع.

رغم كل هذا، استمر انتشار العلم والدعوة إلى القيم الإسلامية بدعم بعض الدول وجهود العلماء في ذلك العصر. لكن عدد العلماء والمصلحين الذين كانوا يتماشون مع حاجات المجتمع المسلم بدأ يقل تدريجيًا. كما أن الاضطرابات الاجتماعية العامة، والجهل، والانحطاط أدت إلى ضعف تأثير العلماء في المجتمع.

وبالتالي، دخلت أعمال معادية للإسلام إلى المجتمع. ولم يكن فقط عامة الناس، بل حتى المتدينون أنفسهم بدأوا يقومون بأعمال لا تتوافق مع الشريعة، وأعمال لم تكن موجودة في عهد الإسلام الأول.

يمكننا شرح هذا الوضع من خلال انتشار “السامع” أو الاستماع إلى الغناء والموسيقى بين الصوفية الكرام، لأن ذلك يساعدنا في فهم أنشطة الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف.

في العصور الأولى للإسلام، كان معنى “السامع” أو الاستماع مقتصرًا على سماع القرآن الكريم وسير النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله. هذه كانت تثير في قلوبهم حب الله وحب النبي. لم يكن المسلمون يستمعون إلى الأغاني للحصول على قرب الله أو لإثارة حب الله في قلوبهم.

كان الغناء والترفيه منتشرًا بين الناس المترفين أو غير المتدينين كوسيلة للتسلية، لكن العلماء كانوا يحرمونه. حاول بعض العلماء القول بجوازه كوسيلة ترفيهية، لكن لم يُعتبر أبدًا وسيلة لتحقيق القرب من الله.

كان الصوفيون في العصور الأولى من المتبعين الكاملين للسنة النبوية. كانوا من جهة متقنين للقرآن والسنة والفقه، ومن جهة أخرى كانوا روادًا في التعبد الروحي والارتقاء الروحي اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم. الصوفية في القرنين الثاني والثالث الهجريين كانوا يزدادون في النوافل، وترك الشهوات الدنيوية، ومعارضة النزعات، والاعتزال، وغيرها من طرق التعبد الروحي. كانوا جميعًا يعطون أهمية عظيمة لفهم القرآن والسنة بعمق وتنظيم حياتهم بناءً على هذا الفهم.

من أعظم صوفيي القرن الثالث الهجري، حضرة جُنيد البغدادي (توفي 298 هـ) الذي كان يقول دائمًا: "علم تصوفنا محكوم بالقرآن والسنة، ولا يجوز اتباع من لم يحفظ القرآن ولم يدرس الحديث ولم يكتسب علم الفقه." وكان يقول أيضًا: "تصوفنا مرتبط بحديث النبي صلى الله عليه وسلم... لم نكتسب التصوف بالكلام العشوائي، بل بالامتناع عن الطعام، وترك الدنيا، والابتعاد عن اللذات."

ولكن في العصور اللاحقة، بسبب الاضطرابات الاجتماعية العامة، ونقص الدراسة في الفقه والحديث والمعرفة الإسلامية، وتأثيرات غير إسلامية، دخلت مظاهر غير مستحبة في طريقة بعض الصوفية. ففي وسط الفوضى الاجتماعية، كان الكثير من الجهلاء العاطلين يتظاهرون بالتصوف ويجتمعون في الزوايا (الخَنَقَاء)، مستغلين تبرعات الناس وشفقتهم وحبهم، دون أن يكون لديهم معرفة أو خشية الله، وكانوا يخدعون الناس بطرق متعددة. وفي المقابل، بعض الصوفية الصالحين المتقين كانوا يفتقرون للمعرفة الصحيحة، فيعتمدون على ذوقهم وحالة قلوبهم في الحكم على الأمور، ونتيجة لذلك انتشرت الموسيقى والرقص وغيره من الممارسات غير المستحبة.

ومع مرور الزمن، أصبحت الموسيقى جزءًا من طقوس بعض الناس المتدينين، وأطلقوا عليها "السمع" أو "السماع". وأصبح السماع منذ القرن الخامس الهجري أحد أهم أعمال الصوفية، ولم يكن يُتصور خانقاه صوفية أو مجلس صوفي بدون السماع. كان الصوفية يستمعون إلى الأغاني التي تعبر عن الحب والفراق واللقاء، والتي تثير في قلوبهم حب الله والشوق للقائه وألم الفراق. وكانوا يرقصون على إيقاع هذه الأغاني، ويُخلعون أحيانًا ثيابهم تعبيرًا عن هذا الانفعال. البعض يغني ويرقص مع الموسيقى، وآخرون يغنون ويرقصون بدونها، ويعقدون مجالس السماع بانتظام. لأن هذه الأغاني (الغزل) كانت تثير في قلوب المحبين لله موجة حب لله، وكانوا يرون السماع وسيلة للوصول إلى الله وحصول محبته.

عندما يصبح عمل ما واسع الانتشار بين الناس، وخاصة بين المتدينين والصالحين، يبدأ بعض العلماء بتقديم الحجج لتبريره واعتباره جائزًا أو موافقًا للشريعة. وهذا ما حدث في حالة الموسيقى والسمع. بعض العلماء، احترامًا للصوفية، ونظرًا للفرح وحب الله الذي يولده السماع في القلوب، أفتوا بجوازه. من هؤلاء العلماء الإمام الغزالي (توفي 505 هـ)، الذي في كتابه المشهور "إحياء علوم الدين" ناقش طويلاً وأثبت جواز الموسيقى والرقص، واعتبرها من البدع الحسنة والجائزة شرعًا. واعترف بأن هذه الأمور لم تكن معروفة أو شائعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين. وادعى أن الغناء والموسيقى وجلسات الغناء والرقص وخلع العمائم وتمزيق الثياب من البدع الحسنة والجائزة، وأنها تعتبر زادًا لطريق الله.

(أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الفكر، 1994، 2/292-332)

ومن ناحية أخرى، لم يستطع كثير من العلماء قبول انتشار هذه الأمور في المجتمع. فقد اعتبروا عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وتابعي التابعين هو العصر الموثوق به، وفي هذه العصور لم تكن الموسيقى والغناء والرقص وغيرها من الأعمال من أفعال أولي الله الصالحين، بل كانت من أفعال فئة من الناس الغارقين في الفسق والفجور في المجتمع. لذلك، بالرغم من الانتشار الواسع لهذه الأمور بين الأولياء الصالحين، لم يقبلها هؤلاء العلماء بل حاولوا منعها.
ولكنهم كانوا يشعرون أن كلماتهم لا يلتزم بها عامة الصوفية، وأنهم لا يستطيعون إيقاف موجة الغناء والرقص. نلمس ذلك في قول حضرة عبد القادر الجيلاني (رحمه الله) (توفي 561 هـ). وهو من أعظم العلماء والزهاد في القرن السادس الهجري. وعلى الرغم من معارضته للموسيقى والرقص والسماع بنفسه، فقد اعترف بانتشار هذه الأمور بين الصوفية في عصره وقبل بها نوعًا ما تبعًا للظروف.
يقول في كتابه "غنية الطالبين" في فصل آداب السماع:
"لا ينبغي أن يقوم المريد بحركات أو رقص أمام المريد، وإذا حصل ذلك نتيجة اهتمام خاص من المريد تجاه المربي فليغفر له ذلك... تفسيرنا للسماع هو أننا لا نعتبر القوالة والموسيقى والرقص جائزين، ولكن نرى أن الكثير من الدراويش في زماننا قد بدأوا بترويج ذلك في خانقاهاتهم. ومع ذلك، لا يعني الانتشار الواسع أن الشيء المحرم يصبح مباحًا.
ومع ذلك، إذا أُقيمت صلاة على الله والرسول (صلى الله عليه وسلم) والمدح والنشيد النقي الطاهر في السماع بدون أي مخالفة شرعية، فقد تم الاعتراف به من قبل العديد من الأولياء الصالحين.
ولكن مهما كان الشيء جائزًا أم لا، يجب على المريدين الحفاظ على آداب المربي في مجالس السماع. وإذا كان المربي حاضرًا في المجلس، فلا ينبغي للمريدين أن يأمروا القوالة بوقف نشيد أو غناء موضوع معين أو بمدح نشيد معين، فكل هذه الأمور تعتمد فقط على المربي."
(عبد القادر الجيلاني، غنية الطالبين، ترجمة البنغالية: أ. ن. م. إم داد الله، دار نشر: شركة تاج بنغلاديش، دكا، ٢/٣٥٩)

من هذا النقاش نفهم حدود جهود العلماء الإصلاحية في ذلك العصر. فقد حُرموا من الدعم الشعبي، وتأثر المجتمع بالجهل بشكل كبير، ومع ذلك أضاءوا شعلة الإسلام وأرشدوا الناس لتلقي التعاليم الحقيقية للإسلام. نسأل الله أن يرحمهم.

بعد حوالي 45 سنة، حكم بكوبري دولته بكفاءة وسمعة طيبة. في نفس الوقت، شارك في العديد من المعارك ضد قوات الحملات الصليبية وجيوش التتار وأظهر شجاعة وبسالة. ذكر مؤرخوه أنه لم يهزم في أي معركة خلال حياته. (الذهبي، النوابل، المصدر السابق، 22/336). كما كان خلفاء بغداد يكنون له الاحترام. وصل إلى بغداد، عاصمة العالم الإسلامي، في سنة 628 هـ (1231 م) قبل وفاته بسنتين، ولم يسبق له أن زار بغداد من قبل. استقبله الخليفة هناك باحترام بالغ، وكان في استقباله جيش ملكي ضخم، كما قابل الخليفة بنفسه مرتين، وهو شرف كبير لبكوبري. بعد ذلك عاد إلى حكمه في أربيل بكرامة واحترام. (ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر السابق، 9/10).
ومن الأدلة الأخرى على مكانة بكوبري عند الخليفة، أنه في السنة التالية، 629 هـ (1232 م)، عندما تحركت جيوش التتار باتجاه العراق ودمرت المدن الإسلامية، تذكره الخليفة ودعاه للمجيء. وعندما تقدم بكوبري بجنوده، انضم الخليفة بجيشه إلى قواته. وبقدوم الجيش الموحد، تراجع التتار مخافة منهم. (ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر السابق، 9/13؛ الذهبي، الإibar، المصدر السابق، 3/202).
كان يحرر أعدادًا كبيرة من المسلمين سنويًا من أيدي الصليبيين عبر الحروب. قال بعضهم إنه حرر 60,000 أسير مسلم خلال حياته الطويلة. (ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر السابق، 9/18).

سبق وأن ذكرنا الهجمات المدمرة الشاملة للتتار وتدميرهم للعديد من المدن الإسلامية. رغم ذلك، خلال حياة بكوبري، لم يتمكن التتار من دخول أربيل. ففي سنة 617 هـ (1220 م) هاجم التتار مناطق بخارى وقصبين وقتلوا الكثير. ثم توجهوا إلى أربيل، فجمع بكوبري جيشًا كبيرًا بمساندة بعض الحكام المجاورين، فواجهوا التتار الذين تراجعوا دون قتال. (الذهبي، الإibar، المصدر السابق، 3/172؛ ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر السابق، 8/597).
وكما ذكرنا سابقًا، في سنة 629 هـ، أجبر بكوبري القوات التتارية على الانسحاب بقيادة جيش مسلم موحد. (الذهبي، الإibar، المصدر السابق، 3/202).
بعد وفاة بكوبري بأربع سنوات، في سنة 634 هـ، استولى التتار على أربيل وقاموا بمذبحة عشوائية، وحولوا المدينة إلى أنقاض، ونهبوا ثرواتها، وتركوا وراءهم أكوامًا من الجثث ثم انسحبوا. (الذهبي، المصدر السابق، 3/218).

كان حضرة بكوبري متدينًا جدًا. المؤرخ المشهور في القرن التالي الإمام الذهبي (توفي 748 هـ) قال: "رغم أنه كان ملكًا على دولة صغيرة، إلا أنه كان من أكثر الملوك ورعًا وكرمًا والتزامًا بخدمة المجتمع والإنسانية. وكان ينفق كل عام أموالًا طائلة في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حتى أن ذلك كان موضع حديث الجميع." (الذهبي، المصدر السابق، 3/208).
وكان يسعى لاكتساب العلم من العلماء في أوقات فراغه من إدارة الحكم. (اليزركلي، أعلام، المصدر السابق، 5/237).

إلى جانب الحرب وإدارة الدولة، أنشأ في مملكته وممالك إسلامية مختلفة مدارس وملاجئ للأيتام ومؤسسات خيرية. في مملكته الصغيرة أسس عدة مؤسسات لخدمة المجتمع، منها مدرستان عاليتا المستوى، وأربعة خانقاه للصوفيين والمسافرين، ومركز إعادة تأهيل للأرامل، وملجأ للأيتام والأطفال الذين لا يعرفون آباءهم وأمهاتهم، ومستشفى وغيرها. (الذهبي، الكامل في التاريخ، المطبوع، ٣/٢٠٨؛ النوابل، المطبوع، ٢٢/٣٣٥) في سنة ٥٩٨ هـ أنشأ مدرسة في فلسطين وأنفق عليها أموالًا كثيرة لإدارتها. (ابن كثير، البداية والنهاية، المطبوع، ٨/٥٣٦)

وصف المؤرخ المعاصر لأبي سعيد كوكبوري، العلامة ياقوت الحموي (توفي ٦٢٦ هـ)، كوكبوري فقال: "قام الأمير مظفر الدين كوكبوري بالكثير من الأعمال التنموية في مدينة أربيل. وقد حاز مكانة خاصة من الاحترام والتقدير بين ملوك عصره بشجاعته وبسالته وخبرته الطويلة. ولذلك بدأ الناس من بلدان مختلفة بالسكن في دولته وأصبحت أربيل واحدة من أكبر المدن في ذلك العصر. كان هذا الأمير متناقضًا في شخصيته؛ من جهة كان يظلم رعيته ويأخذ منهم أموالاً بغير حق، ومن جهة أخرى كان يساعد قراء القرآن والمتدينين، ويمنح الفقراء والمحتاجين بسخاء، وينفق بسخاء على أعمال الخير، ويحرر الأسرى المسلمين من غير المسلمين مقابل المال..." (ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ١/١٣٨)

ومن المؤرخين المعاصرين أيضًا العلامة ابن خلكان (٦٨١ هـ) الذي كان يعرف كوكبوري شخصيًا وكان يحبّه. وذكر في سيرته: "لم يُسمع أن أحدًا قام بأعمال خيرية مثل أعماله. كان أعظم أعماله في الدنيا الصدقة. كان يوزع الخبز يوميًا، ويوزع الملابس والنقود على الكثيرين سنويًا. أنشأ أربعة خانقاه للمصابين بالأمراض المزمنة والمكفوفين، وكان يلبّي كل احتياجاتهم. كان يزورهم مساء كل اثنين وخميس، يسأل عن أحوالهم، يعطيهم بعض النقود، ويمازحهم ويدخل السرور عليهم.

أسس مركز إعادة تأهيل للأرامل وآخر للأيتام. وأنشأ ملجأً للأطفال المهملين وعين عددًا كافيًا من المربيات لإرضاعهم ورعايتهم، ووفّر لهم رواتب مناسبة. كان يزورهم باستمرار، يطمئن عليهم، ويعطيهم أموالًا إضافية بجانب الرواتب. كان يزور المرضى في المستشفى ويعتني بهم. وكان لكل مسافر مكان في ضيافته، ويوفر لهم الطعام مرتين يوميًا، وإذا كان أحدهم مسافرًا يعطيه مصروف الطريق.

أسس مدرستين مذهبيتين: واحدة للحنفية وأخرى للشافعية. كان يزورهما باستمرار، ويقيم فيهما الولائم وحفلات السماع... كان السماع والغناء الروحي متعة وسعادة حياته الوحيدة. لم يكن يسمح بظلم أو فساد في مملكته. أنشأ خانقتين للصوفية، كان يسكنهما عدد كبير من الصوفيين المقيمين والزائرين، ورتب لهما أوقافًا كثيرة لتغطية نفقاتهم. وكان يعطي من يرغب بمغادرة الخانقة بعض المصاريف. كان يأتي إليها كثيرًا وينظم لهم جلسات السماع."

كان يُفرج عن العديد من الأسرى كل عام، ويرسل المعونة للحجاج، ويُرسل خمسة آلاف دينار (عملة ذهبية) لعبّاد الحرم الشريف في مكة المكرمة. وكان يقوم بتوفير الماء في صعيد عرفات. (ابن خَلّكان ٤/١١٦-١١٧، يحيى، النوّاب ٢٢/٣٣٥).

في حياته الشخصية، كان إنسانًا بسيطًا وزاهدًا في الدنيا. تقول زوجته، رابية خاتون أخت الغازي صلاح الدين: كانت ثيابه الرخيصة لا تزيد قيمتها عن خمسة دراهم (عملة فضية). وعندما غضبت منه على ذلك، قال: إنني أفضل أن أنفق باقي المال على الفقراء بدلاً من أن أرتدي ثوبًا ثمينًا وأحرم الفقراء من ذلك. (ابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٨، يحيى، النوّاب ٢٢/٣٣٦).

كان يفضّل الإنفاق في سبيل رفاهية الناس بدلاً من الترف الشخصي. أسس بيتًا للمسافرين والعلماء والصوفيين، حيث كان يُستقبل أي قادم من أي مكان. وكان يحبّ العطاء في مختلف المناسبات، وأرسل أمواله للإنفاق في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وغيرها من الأماكن الإسلامية. كان ينفق في عيد المولد النبوي الشريف ٣٠٠,٠٠٠ دينار، و٢٠٠,٠٠٠ دينار لخانقات الصوفية، و١٠٠,٠٠٠ دينار لبيت المسافرين، و٣٠,٠٠٠ دينار لتوفير الماء في مكة والمدينة ومنطقة الحجاز. وكان ذلك من الصدقات العلنية، بالإضافة إلى صدقاته السرية التي لم يعلم بها أحد. (ابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٨، يحيى، النوّاب ٢٢/٣٣٦).

أنهى حياته العملية حوالي عمر ٨٢ سنة، وتوفي في ٤ رمضان ٦٣٠ هـ (١٣/٦/١٢٣٣ م). (يحيى، الإبر ٣/٢٠٨، النوّاب ٢٢/٣٣٧، ابن كثير، البداية والنهاية ٩/١٨). توفيت زوجته رابية خاتون أخت الغازي صلاح الدين بعد ١٣ سنة في ٦٤٣ هـ، وكان عمرها أكثر من ٨٠ عامًا عند الوفاة. (يحيى، الإبر ٣/٢٤٥). رحم الله الجميع وأثابهم خير الجزاء.

واحدة من أعماله العظيمة التي تميّزت حياته العملية وجعلته مختلفًا عن جميع الحكّام المعاصرين، وتُذكر في التاريخ بخصوصها بشكل خاص، هي تقليد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في العيد. بدأ هذا الاحتفال خلال فترة حكمه الممتدة من ٥٨٣ إلى ٦٣٠ هـ، لكن لم يتم تحديد السنة الأولى بدقة. أشار العالم البنغالي المعروف، حضرة المولانا محمد بشر الله مدينيبوري، إلى أن الاحتفال بدأ عام ٦٠٤ هـ. (محمد بشر الله، حقيقة محمدي وميلاد أحمدي، ٣٠١-٣٠٢). ولم يذكر مصدرًا لهذا الكلام. ومن أوصاف المؤرخين يُستدل على أن الاحتفال بدأ قبل ٦٠٤ هـ. كتب ابن خَلّكان: "في ٦٠٤ هـ، مرّ ابن دحية بخراسان عبر إربيل، فوجد أن الملك مظفر الدين كوكبوري يحتفل بالمولد بحماس وشغف، ويقيم احتفالًا كبيرًا بهذه المناسبة، فكتب كتابًا عنها..." (ابن خَلّكان ٣/٤٤٩). راجع أيضًا: ١/٢١١، ٤/١١٩.

من هذا يتضح أن ابن دحية قبل وصوله إلى أربيل في سنة ٦٠٤ هـ بدأ الكوكبوري احتفال المولد النبوي، ولذلك رآه ابن دحية في أربيل يحتفل بهذه المناسبة. ومع ذلك، لا يبدو أن الاحتفال بدأ قبل سنة ٦٠٤ هـ، لأن ابن دحية لم يكن يعرف الأمر من قبل، وهذا يدل على أنه لم يكن منتشرًا بعد في البلاد المجاورة. ومن هذا يمكننا أن نفترض أن الكوكبوري بدأ الاحتفال بالمولد في أواخر القرن السادس الهجري أو في بداية القرن السابع الهجري (٥٩٥-٦٠٣ هـ).

ج) أول كاتب لكتاب المولد: شخصية وحياة:
إذا لم نذكر مساهمة شخصية أخرى في نشر الاحتفال بالمولد، فربما يبقى النقاش ناقصًا. وهو العلامة أبو الخطاب عمر ابن حسن ابن دحية الكلبي (٦٣٣ هـ)، الذي ألف أول كتاب في "المولد النبوي"، والذي كان مصدر إلهام لكثير من الكتب التي ركزت على المولد فيما بعد.

ولد ابن دحية في سنة ٥٤٤ هـ (١١٥٠ م) وتوفي في مصر سنة ٦٣٣ هـ (١٢٣٥ م). وفي حياته التي امتدت حوالي تسعين عامًا، تجول في معظم أنحاء العالم الإسلامي آنذاك، وكتب عدة مؤلفات وأسهم في العلوم الإسلامية. ومع ذلك، من اللافت للنظر أن المؤسس للاحتفال بعيد المولد، الحاج كوكبوري، الذي نال مدح أغلب المؤرخين، لم يحظى ابن دحية كمؤلف أول كتاب عن المولد بمثل ذلك المدح من العلماء المعاصرين واللاحقين، بل انتقده بعض المؤرخين والكتاب على بعض سلوكه وأفعاله. وهنا أتناول سيرته الذاتية وأعماله.

ولد ابن دحية في الأندلس. وكان يدعي أنه من نسل الصحابي المشهور دحية الكلبي، وعلاوة على ذلك، كان يزعم من جهة الأم أنه من نسل الإمام الحسين رضي الله عنه. لكن المؤرخين المعاصرين واللاحقين وصفوا نسبه هذا بأنه غير موثوق ومختلق.
(انظر: يحيى الذهبي، النوابل ٢٢/٣٨٩، ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣/١٨٦)

رغم الخلافات حول النسب أو النسبية، كتب المؤرخون المعاصرون - والعديد منهم كانوا من تلامذته - أنه تلقى تعليمه الابتدائي في الأندلس. درس على يد علماء الأندلس المشهورين في ذلك الوقت الحديث والفقه واللغة العربية والتاريخ، ونال منهم الإجازات. كانت خط يده جميلاً جداً، وكان ماهراً في اللغة العربية والنحو العربي. كان فقيهاً متمرساً في المذهب المالكي، لكنه فيما بعد ترك المذهب واعتنق المذهب الظاهري المعارض للمذاهب الأربعة. كان خبيراً في علم الحديث، وكان اهتمامه الأكبر بالتعليم والبحث في الحديث. عمل كقاضي (قاضي) في مدينة دانية بالأندلس. وبعد أن وجهت إليه بعض الاتهامات أُعفي من منصب القضاة. ثم أقام لبعض الوقت في شمال أفريقيا في المغرب وتونس. من المعروف أنه كان يعلم الحديث في تونس عام 595هـ (1199م). بعد ذلك أدى فريضة الحج. وبعد الحج زار المدن الكبرى في شرق العالم الإسلامي، مثل مصر والشام والعراق وإصفهان وغيرها. كان شغفه بالعلم عظيماً لدرجة أنه رغم كونه عالماً خبيراً، كان يتنقل بين المغرب وتونس ومصر والشام والعراق وإصفهان، ويتلقى العلم من العلماء المشهورين في تلك المناطق في الحديث والفقه وغيرها، كما كان يعلم في تلك المناطق.(ابن خلكان، وفيات الأعيان 3/448-450، ياقوت الحموي، النُبلاء 22/389-391، الإبر 3/217، ابن كثير، البداية والنهاية 9/26).

في رحلته بعد الحج وصل إلى مدينة أربيل عام 604هـ (1207م). رأى أن الحاكم هناك "الكوكبوري" قد شرع الاحتفال بمولد النبي في شهر ربيع الأول بمهرجان كبير. كتب حينها كتاباً عن المولد بعنوان "التنوير في مولد السيراج المنير" بإيعاز من الملك الكوكبوري، وقدّم الكتاب له، وهو أول كتاب مكتوب عن المولد. وقد كافأه الكوكبوري بألف دينار ذهبية على هذا الكتاب.(ياقوت، النُبلاء 22/336، الصالحي، السيرة 1/362، ابن كثير، البداية والنهاية 9/26).

بعد جولات في دول الشرق الإسلامي وصل إلى مصر واستقر هناك. في تلك الفترة كان السلطان "الملك العادل" سيف الدين أبو بكر محمد بن نجم الدين أيوب (حكم 597-615هـ / 1200-1218م) هو حاكم مصر ورئيس العالم الإسلامي. عينه الملك العادل مدرساً خاصاً لابنه ولي العهد "ناصر الدين أبو المظفر محمد" (الملك الكامل). بعد وفاة الملك العادل في 615هـ (1218م)، تولى ناصر الدين أبي المظفر محمد (الملك الكامل) عرش مصر (حكم 615-635هـ / 1218-1238م). في عهد الملك الكامل نال ابن دحية مكانة عظيمة، وقد منحه الملك مكانة وملكاً عظيماً. كما أسس في القاهرة مدرسة الحديث "دار الحديث الكاملية" وعين ابن دحية أول رئيس لها. وبعد فترة من توليه المسؤولية تعرض لعدة مشاكل وأصبح في خصومة مع الملك، فتم عزله، فهرب واختفى خوفاً من عقاب الملك.

سبب خصومة الملك الكامل معه كان بسبب جانب آخر من حياة ابن دحية المجيدة. رغم اجتهاده وحرفته الواسعة في العلوم الإسلامية، إلا أن علماء عصره كانوا يعادونه لأسبابين:

الأول هو تصرفاته القاسية والمهينة تجاه العلماء والإمام السابقين. كتب ابن نزار المعاصر (توفي 643هـ): "كان يتبع المذهب الظاهري (لم يعترف بالمذاهب الأربعة، وكان يعارض اتباع المذاهب)، وكان يسب ويهين السلف الصالح (الصحابة والتابعين والعلماء السابقين) والإمام السابق. رغم علمه الكبير، كان متكبراً جداً. كان كلامه فاحشاً وقبيحاً. وكان يهمل في التزامه الديني، وكان يلون لحيته بالسواد." (ياقوت، النبلاء 22/394-395، اليركلي، الأعلام 5/44).

قال العلامة زِيَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ ابنُ عبد الوَاحِدِ المَقْدِسِيّ (٥٦٩-٦٤٣ هـ):
"رأيته في أصفهان، لكنني لم أتعلم منه شيئًا، لأن حاله لم يعجبني. كان ينتقد الأئمة بشدة." (الذهبي، النوابل ٢٢/٣٩١)

وكتب العلامة الذهبي:
"كان عالمًا في مختلف العلوم الإسلامية، وذا معرفة خاصة باللغة العربية وعلوم الحديث، لكنه كان ضعيفًا كراوي للحديث." (الذهبي، النوابل ٢٢/٣٩١)

وبسبب هذه الطباع، حين كان يقيم في المغرب وتونس، اجتمع علماء تلك البلاد وكتبوا بيانًا ينكرونه ويعتبرونه غير مقبول. (الذهبي، النوابل ٢٢/٣٩١؛ ميزان الاعتدال ٣/١٨٦)

أما الأمر الثاني فهو أنه كان يزعم أمورًا عن نفسه وعن علمه ومكانته، اعتبرها العلماء في عصره كاذبة.

قال العلامة محمد ابن عبد الغني ابن نقطة (٦٢٩ هـ):
"كان معروفًا في المجتمع بعلمه ومكانته، لكنه كان يدعي أشياء كثيرة غير واقعية عن نفسه. كان يزعم أن صحيح مسلم وسنن الترمذي محفوظتان عنده عن ظهر قلب. وقد أعطاه طالب في اختبار بعض أحاديث صحيح مسلم وبعض أحاديث سنن الترمذي وبعض الأحاديث الموضوعّة والموهومة، فلم يقدر على التفريق بينها ولا معرفتها." (الذهبي، النوابل ٢٢/٣٩٢؛ انظر أيضًا: السيوطي، طبقات الحفاظ ٥٠١)

وقال الذهبي:
"من كتبه ما فيه ما يثير الاعتراضات الشديدة في وصف الأحاديث الصحيحة والضعيفة." (ميزان الاعتدال ٣/١٨٨)

قال العلامة ابن حجر العسقلاني (٨٥٢ هـ) ناقلاً عن المؤرخ ابن نَجّار (٦٤٣ هـ):
"رأينا أن الجميع متفقون على أن ابن دحية كان يكذب ويدّعي أشياء باطلة." (ابن حجر، لسان الميزان ٤/٢٩٥)

قال ابن حجر العسقلاني في رواية أخرى: "قال لي أحد علماء عصره: كنت في يوم في بلاط السلطان، وكان ابن دحية هناك. فسألني السلطان عن حديث فأخبرته به، ثم سألني عن سند الحديث، فاعترفت بأنني لا أذكر السند. وعندما خرجت من البلاط جاء ابن دحية معي وقال: لما سألك السلطان عن السند، ألم يكن من الأفضل أن تقول سندًا موضوعًا؟ السلطان وجميع من في البلاط جهلة، لا يفهمون شيئًا. لم يكن عليك أن تقول 'لا أدري'، وكان ذلك سيرفع من قدرّك أمام الحاضرين." وقال ذلك العالم: "من قول ابن دحية فهمت أنه لا يبالى بالكذب."

وقال ابن حجر العسقلاني مستدلاً على ذلك بقوله: "حينما جاء ابن دحية إلى أصفهان كان يأتي إلى خانقة والدي، وكان والدي يجلّه كثيرًا. في يوم جاءه بابا مصلى وقال وهو يضعه أمام والدي: قد صليت به آلاف الركعات، وختمت القرآن عدة مرات وأنا جالس عليه في الكعبة المشرفة. ففرح والدي به جدًا وأخذ يصلي به على رأسه ويقبّله. ثم جاء رجل من أهل أصفهان مساءً وقال إنّه رأى عالمًا مغربيًا في السوق يشتري هذا المصلى الغالي. فأمر والدي أن يحضر المصلى من عند ابن دحية، فلما رأى الرجل المصلى أقسم أنّه هو الذي رآه يشتريه ابن دحية. فسكت والدي وذهب كل احترامنا لابن دحية."

وكتب العلامة ابن كثير: "قال الناس كثيرًا في ابن دحية، وقالوا إنه اخترع حديثًا كاذبًا في قصور صلاة المغرب. وكنت أريد أن أرى سند الحديث، لأن جميع العلماء المسلمين متفقون على أن صلاة المغرب لا تقصر. فليغفر الله لنا وله."

وقد ذكر المؤرخ المعاصر ابن خلكان تفاصيل كذب ابن دحية، ويبدو من كتاباته أنه يكن له احترامًا كبيرًا. وكان يعتبر نفسه محظوظًا لأنه قرأ كتاب المولد لابن دحية في بلاط كوكبوري سنة 625 هـ. لكنه استغرب أن ابن دحية ختم الكتاب بقصيدة مدح كبيرة لكوكبوري، وادعى أنه هو من نظمها، لكنه علم لاحقًا أن القصيدة للشاعر أسعد بن ماماتي من حلب، الذي مدّح بها حاكمًا آخر في عصره."

(ابن حجر، لسان الميزان ٤/٢٩٥-٢٩٦؛ ابن كثير، البداية والنهاية ٩/٢٦؛ ابن خلكان، إعلان الوراق ١/٢١٢، ٣/٤٤٩-٤٥٠)

لذلك اتهم العلماء المعاصرون ابن دحية لدى السلطان الكامل. وللتحقق من صحة هذه الاتهامات طلب السلطان منه كتابة شرح على كتاب "الصحاب" المعروف آنذاك. فكتب ابن دحية شرحاً ناقش فيه الأحاديث المذكورة في الكتاب وسندها. قرأ السلطان هذا الشرح وبعد فترة قال إن الشروح السابقة ضاعت وطلب كتابتها مرة أخرى. فألف ابن دحية كتاب شرح آخر ناقش فيه الأحاديث كما في السابق، ولكن النقاش والآراء والاستنتاجات في الكتاب الأول والثاني كانت متعارضة. وبذلك اتفق السلطان مع العلماء المتهمين على أن ابن دحية يتحدث بآراء مخالفة ويُدلي بادعاءات ملفقة، فقرر عزله. كما يقال إنه كان غير راضٍ عن بعض أعماله الأخرى كذلك.
(الذهبي، النبلاء 22/392، ميزان الاعتدال 3/187)

وفي نهاية حياة حافلة دامت نحو تسعين عاماً، توفي العالم العلامة ابن دحية، مؤلف أول كتاب في "ميلاد النبي"، في 14 ربيع الأول سنة 633 هـ (26/11/1235م).
(الذهبي، النبلاء 22/389-395، ميزان الاعتدال 3/189، ابن كثير، البداية والنهاية 9/26)

وبالرغم من كل ذلك، يمكن القول إن ابن دحية كان عالماً بارزاً في عصره، عالماً في فروع متعددة من العلم، ومؤلفاً للعديد من الكتب. وقد مدح أحد المؤرخين المعاصرين مؤلفاته قائلاً: "كان عالماً في عدة مجالات، وقام بالعديد من الرحلات، وألف كتباً ذات مستوى رفيع، وكان يحظى بالاحترام من العامة ومن صفوة المجتمع على حد سواء."
(الذهبي، النبلاء 22/394)

ولكن بلا شك، الكتاب الذي جعله يحتل مكانة في التاريخ هو كتابه عن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان "التنوير في مولد البشير الناذر"، لأنه كان أول كتاب في هذا الموضوع. وفقاً لوصف ابن خلكان، دخل ابن دحية إربل سنة 604 هـ، وأقام فيها ضيفاً رسمياً عند السلطان كوكبوري مدة سنتين، وخلال هذه الفترة جمع هذا الكتاب، ثم أكمله سنة 606 هـ، وقرأه على كوكبوري.
(ابن خلكان، وفيات الأعيان 1/212، 3/29، 4/119)

قد يتبادر إلى ذهننا هنا سؤال: هل لم يكتب صحابة النبي العظيم (صلى الله عليه وسلم)، أو التابعون، أو علماء المجتمع الإسلامي في العصور التالية، كتابًا واحدًا عن مولده طيلة ستة مئات عام؟ مما أدى إلى حصول ابن دحية على هذا الشرف؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نفهم حالة تلك العصور.

كان المسلمون في العصر الأول، من صحابة وتابعين، مشغولين بالكامل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بذلوا كل عواطفهم ومحبتهم وإخلاصهم ليتعلموا حياته وأعماله، ويفهموها، ويعلموها، ويسجلوها. وقد ورد وصف أعمالهم في الحديث الشريف والتاريخ، والكتب التي كتبت وجمعت في عصرهم أو التي بقيت إلى عصرنا الحالي، فنجد أنهم كانوا منشغلين بمعرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وصفاته، وسيرته العملية، ونمط حياته، ولم يكن اهتمامهم بكتابة سيرة تاريخية متسلسلة لحياته.

أي لم يكن هناك اهتمام بكتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تفصيليًا من حيث تاريخ ميلاده أو ذكر ولادته. لذلك، لا نجد في الصحابة أي نقاش عن يوم ميلاده أو تاريخ ولادته أو شهر ولادته، وبالتالي لم تُكتب أي كتب عن ميلاده في ذلك الزمان.

في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وردت في كتب الحديث القليلة عدد من الأحاديث التي تتحدث عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ناقشنا سابقًا. كما بدأ في أواخر القرن الأول الهجري تأليف كتب السيرة، التي ركزت بشكل خاص على غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر كتب السيرة في القرن الثاني والثالث الهجري: سيرة محمد بن إسحاق (توفي 151هـ)، وعبد الملك بن هشام (توفي 218هـ)، ومحمد بن سعد (230هـ). وفي هذه الكتب توجد بعض الأوصاف عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن القرن الثالث الهجري بدأ المؤرخون المسلمون يذكرون وصفًا لمولد النبي صلى الله عليه وسلم في كتب التاريخ، مثل الخليفة ابن خياط (240هـ)، وأحمد بن يحيى البلاذري (279هـ)، والعلّامة محمد بن جرير (310هـ) وغيرهم.

ومن القرن الخامس الهجري بدأت تظهر مؤلفات خاصة باسم "دلائل النبوة" التي جمعت المعجزات والكرامات التي حدثت أثناء مولد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل كتب أبو نُعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (430هـ) وأبو بكر أحمد بن حسين البيهقي (458هـ).

وعليه، نلاحظ أنه لم يُكتب كتاب خاص عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم منفردًا، فكان الاحتفال بمولده في القرون الأولى للإسلام غير معروف بين الأمة الإسلامية، ولم يُكتب كتاب منفصل عن المولد قبل القرن السادس الهجري. ولهذا السبب نال ابن دحية هذا الشرف.

أما كتب ابن دحية الأخرى فقد ضاعت تقريبًا من تاريخنا ومكتباتنا الإسلامية، لأن الكثير من العلماء كتبوا كتبًا كثيرة من هذا النوع، ولكن كتاب المولد هو الذي ذكره المؤرخون بشكل خاص. وقد عبّر كثير من العلماء والمؤرخين المعاصرين عن سرورهم وفائدتهم بقراءته.

وكتب المؤرخ المعاصر ابن خلكان (681هـ): "كان من العلماء المعروفين والناس المرموقين، وله ملكة في علوم كثيرة... وسمعنا كتاب مولده في بلاط ملك كوكبوري بإربيل سنة 625 هـ في ست مجالس."

وقال ابن كثير (774هـ): "قرأت كتاب المولد وكتبت منه بعض الأمور الحسنة والنافعة."

(ج) عيد المولد النبوي: تعريف الاحتفال:

في المناقشات السابقة تعرّفنا على الشخصيات المرتبطة بإدخال الاحتفال بالمولد النبوي. والآن نريد أن نرى كيف كانوا يحتفلون بالمولد النبوي. العلامة المعاصر المؤرخ ابن خلدون كان شاهدًا عيانًا على احتفال المولد في كوكبوري. وعند وصفه لهذا الاحتفال كتب:

عند الحديث عن وصف احتفال المولد النبوي في كوكبوري، يعجز اللسان عن التعبير. وعندما عرف الناس من مختلف البلدان عن جهوده المخلصة في هذا الشأن، بدأ الناس من جميع المناطق المجاورة بالتوافد للمشاركة فيه. كان يجتمع علماء، قرّاء، صوفية، خطباء، واعظون، وشعراء من بغداد، الموصل، الجزيرة، سنجار، نيسيبين، ومناطق مختلفة من فارس. يبدأ قدومهم من شهر محرم ويستمر حتى الأسبوع الأول من ربيع الأول. في الساحات المفتوحة، كان يتم إنشاء أكثر من عشرين هيكلًا خشبيًا ضخمًا (خيام)، أحدها مخصص له، والبقية تُخصص للأمراء، العمرة، والمسؤولين الحكوميين. من أول يوم في شهر صفر تُزيّن هذه الخيام بشكل جميل. في كل خيمة توجد فرق غنائية، فرق تمثيل، وفرق للعب الألعاب المختلفة. خلال هذه الفترة، يتوقف الناس عن حياتهم وأعمالهم العادية، ويصبح عملهم الوحيد هو التجوال في هذه الخيام والاحتفال والابتهاج. بعد صلاة العصر، كان يأتي إلى ساحة كوكبوري ويزور كل خيمة ليستمع إلى الأغاني ويرى العروض المسرحية. بعد ذلك، يقضي الليل في خانقاه الصوفية حيث يُقام برنامج سماوي (موسيقى روحية). بعد صلاة الفجر يذهب للصيد ويعود قبل صلاة الظهر.

وهكذا كان الحال حتى ليلة عيد المولد النبوي. وبسبب الخلاف على تاريخ ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يحتفل في سنة في الثامن من ربيع الأول، وفي سنة أخرى في الثاني عشر من ربيع الأول. في هذا اليوم، كان يُرسل قبلها بيومين عددًا كبيرًا من الجمال، والخيول، والماعز، والأغنام إلى الحقول. كان يتم نقل هذه الحيوانات مع الطبول والأغاني والفرح إلى الحقول حيث يتم ذبحها وتحضير الطعام منها.

في ليلة المولد، بعد صلاة المغرب، كان يُقام حفل سما غنائي. ثم تُضاء المنطقة بالكامل بعدد كبير من الشموع. صباح يوم المولد، كان يأتي من قصره بكمية كبيرة من الهدايا ويضعها في خانقاه الصوفية، حيث يجتمع كبار المسؤولين وأهل البلد. كان يُعد منبرًا للواعظين. من جهة كان الخطاب والدعوة مستمرين للحضور، ومن جهة أخرى كان جيشه يعرض عرضًا عسكريًا في الساحة الواسعة. كان يجلس في قلعة كوكبوري يشاهد الواعظين والجيش بالتناوب. في هذه الأثناء، كان ينادي واحدًا تلو الآخر من العلماء، والشخصيات المهمة، والضيوف القادمين من مختلف المناطق ليعطيهم الهدايا الثمينة. بعد ذلك، كان يُعد الطعام للشعب في الميدان، حيث كان هناك تنوع في الأطعمة. داخل الخانقاه كانت هناك أيضاً ترتيبات منفصلة لتناول الطعام.

هكذا كان الطعام والشراب مستمرًا حتى العصر. وكان يقيم هناك طوال الليل، حيث تستمر مراسم السماع والغناء حتى الصباح. كان يحتفل بالمولد بهذه الطريقة كل عام. وبعد انتهاء الاحتفال وعندما يبدأ الناس بالعودة إلى منازلهم، كان يعطي لكل منهم مصاريف الطريق.

(ابن خلدون 4/117-119، يحيى الندوي، النوّابلة 22/336)

يكتب المؤرخ المعاصر يوسف بن قَيّوغلي سِبْط ابن الجوزي (توفي: ٦٥٤ هـ / ١٢٥٦ م):
"كان ينظم للسُّوَفِيَّة من الفجر إلى الظهر جلسات "السامع" (الغناء الروحي) وكان يرقص معهم أثناء الاستماع إلى السامع." (ابن كثير، البداية والنهاية، ٨/٥٣٦. الصالحي، السير الشامية، مقتبس ١/٣٦٢).
ويضيف: "قال أحد الحاضرين في مائدة كوكبوري بمناسبة عيد المولد النبوي: كانت على موائدهم خمسمائة جمل مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف آنية للطعام، وثلاثون ألف طبق حلوى. وكان يحضر موائدهم علماء كبار وصدّيقون، وكان يوزع عليهم الهدايا والعطايا بسخاء. وكان ينظم للسُّوَفِيَّة جلسات السامع من الفجر إلى الظهر وكان يرقص معهم أثناء السماع." (ابن كثير، البداية والنهاية، ٨/٥٣٦. الصالحي، السير الشامية، مقتبس ١/٣٦٢).
وقال راوٍ آخر: "في مجالسهم حسبت مئة حصان مشوي، وخمسمائة غنم، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف آنية طعام، وثلاثون ألف طبق حلويات." (الذهبي، النوابل، ٢٢/٣٣٧).

لقد رأينا سابقاً أن هذه الحقبة كانت فترة خطرة جداً لأمة المسلمين. ففي ظل الحروب الداخلية، والاضطرابات، والهجمات الخارجية، كان مهرجان مولد النبي في كوكبوري يشكل حدثاً غير مسبوق. فقد كان هذا الاحتفال يشكل مصدراً للتحفيز والوعي لديهم. ووجد الناس في البلاد الإسلامية المختلفة المتضررة والمضطربة نفسياً إلهاماً في هذا الحدث. مما أدى إلى انتشار الاحتفال إلى مناطق أخرى بسرعة.
سنناقش الخلاصة حول هذا الموضوع. ولكن قبل ذلك، دعونا نقارن بين مراحل الاحتفال بالمولد النبوي في المرحلتين الأولى والثانية، ونحاول تحديد الجوانب الأساسية لمهرجان المولد في ذلك العصر.

مقارنة بين مرحلتين في الاحتفال بعيد المولد النبوي:

لقد رأينا سابقاً أن حكام الفاطميين الإسماعيليين في القاهرة عندما بدأوا لأول مرة الاحتفال بعيد المولد النبوي كان الاحتفال جزءاً من النشاطات الرسمية أو البروتوكولات الحكومية. وكان هذا الاحتفال يُقام بنظام رسمي للدولة. وكانت أهم سمات هذا الاحتفال:

  1. كان الاحتفال سنوياً يُقام كل عام في 12 من ربيع الأول.

  2. كان الاحتفال يقام ليوم واحد فقط. وكان يُقام خلال جزء من النهار.

  3. كان الاحتفال يقتصر حصرياً على سكان القاهرة.

  4. كان كبار رجال الدولة والشخصيات المحترمة والمواطنون الراغبون يجتمعون ليقدموا السلام للخليفة في هذه المناسبة.

  5. كانت تُتلى آيات من القرآن الكريم.

  6. كان يتم تكريم المسؤولين الحكوميين وتقديم الهدايا لهم.

  7. كانت تُلقى الخطب. حيث كان خطباء المساجد ومسؤولو الدولة والدعاة يُلقون كلمات في هذه المناسبة.

  8. كانت تُوزع الصدقات بسخاء. وكان يُوزع الحلوى والطعام والمال والملابس على مختلف طبقات المجتمع بأيدي مفتوحة.

(المقريزي، المواعيظ 432-433، القلقشندي، صبح الأعشى 3/498-499)

أما وصف المؤرخين العيان لاحتفال المولد في كوكبوري فقد ذكرناه سابقاً. وبناءً على ذلك نلاحظ أن السمات الأساسية لاحتفال المولد في كوكبوري هي:

  1. كان الاحتفال سنوياً لكن لم يكن يُقام في نفس اليوم كل عام. ففي بعض الأعوام كان يُقام في 8 وبعضها في 12 من ربيع الأول.

  2. كان يُقام احتفال طويل الأمد يمتد لحوالي شهر ونصف قبل الاحتفال الرئيسي.

  3. كان الاحتفال يتحول إلى مهرجان شعبي. لم يقتصر على سكان أربيل فقط بل شارك فيه المسلمون من المناطق المجاورة.

  4. كان يُنظم تجمعات شعبية مفتوحة ومهرجانات جماهيرية في الساحات.

  5. كان من أبرز فعاليات المهرجان الألعاب والغناء وغيرها من الفعاليات الترفيهية.

  6. كان النشاط الأساسي للاحتفال هو تقديم الطعام والشراب.

  7. كان توزيع الهدايا والجوائز من أهم وسائل التعبير عن الفرح بالعيد.

  8. كان يُنظم الخطب والنصائح الدينية.

  9. كان هناك عروض واستعراضات عسكرية.

  10. كان يُقام جلسات سماع (السمع) للموسيقى الصوفية. وكان الاحتفال الرسمي يبدأ في ليلة 7 أو 11 من ربيع الأول بأمسية سماعية، وينتهي في الليلة التالية (8 أو 11 ربيع الأول) بأمسيات سماعية تستمر طوال الليل. وكان المشاركون يرقصون بتأثر على أنغام الموسيقى، ويُسمى هذا الرقص "الوجد".

من مقارنة المرحلتين نرى أن احتفال المولد النبوي كان في الأساس مزيجاً من طقوس دينية وأنشطة احتفالية. فمن جهة كان هناك تلاوة القرآن، وإلقاء الخطب، وتوزيع الأموال والهدايا. ومن جهة أخرى كان هناك أكل الحلوى، وتزيين البيوت، والألعاب وغيرها من الأنشطة الاحتفالية. وكان تقديم الطعام والهدايا جوهر هذا الاحتفال في كلتا المرحلتين. ومن السمات الخاصة لاحتفال كوكبوري وجود جلسات السماعات الموسيقية الصوفية، وهو أمر لم يكن معروفاً في احتفالات المولد الفاطمية الإسماعيلية في القرن الرابع والخامس الهجري. وقد ناقشت هذا السياق سابقاً.

الخاتمة:
بهذا نرى أنه على الرغم من أن الاحتفال بعيد المولد النبوي قد بدأ بحكام مصر الإسماعيلية، فإن أكبر مساهمة في تحويله إلى أحد أهم الأعياد في العالم الإسلامي كانت من حاكم إربيل أبو سعيد كوكبوري. يمكننا اعتباره المؤسس الحقيقي لاحتفالات المولد. والدليل على ذلك أنه عندما بدأ هذا الاحتفال في مصر في القرن الرابع الهجري، لم يكن له أي تأثير على المجتمعات الإسلامية الأخرى. بل إننا لا نرى أي احتفال بهذا العيد في أي مكان آخر في العالم الإسلامي خلال المائتي عام التالية. ولكن عندما بدأ كوكبوري الاحتفال بعيد المولد النبوي في إربيل في بداية القرن السابع الهجري، أحدث ذلك صدى في المجتمعات الإسلامية آنذاك. فقد شارك في احتفاله مسلمون من مناطق بعيدة خارج مملكته. وفي المقابل، خلال المائتي عام التالية، بدأ العديد من المسلمين في مختلف مجتمعات آسيا وإفريقيا بالاحتفال بعيد المولد النبوي.

تلك الأعمال التي لم تكن معروفة أو تمارس كعبادة أو طقوس أو أعياد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ثم أصبحت متداولة كأعمال دينية في المجتمعات الإسلامية في العصور اللاحقة، فإن علماء الأمة الإسلامية دائماً ما ينقسمون حولها. يعتبر الكثير من العلماء أن المسلمين الأوائل هم النموذج الأمثل والكامل في العبادة والتقوى. فهم يرغبون في الحفاظ على أعمال المجتمع الإسلامي وطقوسه الدينية كما كانت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. فإذا لم يقم أهل التقوى في العصور الأولى بعمل ما كوسيلة للتقرب إلى الله، فإنه في رأيهم لا يمكن أن يكون وسيلة للتقرب إلى الله للمسلمين في العصور اللاحقة. ومن ناحية أخرى، هناك فئة أخرى من العلماء لا تعتبر أي عمل أو طقس محرماً لمجرد أنه لم يكن موجوداً في العصور الأولى. بل يبحثون عن أدلة وحجج تدعم الممارسات الجديدة أو الموجودة، وإذا أمكن، يقبلون ما تعارفت عليه المجتمع.

وبما أن الاحتفالات مثل عيد المولد النبوي التي أقامها حكام مصر ومن بعدهم أبو سعيد كوكبوري لم تكن معروفة أو موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فمن الطبيعي أن يختلف العلماء حولها. فقد عارض بعض العلماء الاحتفال بعيد المولد النبوي منذ القرن السابع الهجري بحجة أن الصحابة والتابعين، رغم حبهم الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم، لم يعبروا عن فرحهم بهذه الطريقة الاحتفالية، وبالتالي لا يجوز للمسلمين في العصور اللاحقة فعل ذلك. والأولى للمسلمين في العصور اللاحقة أن يعبروا عن حبهم واحترامهم للنبي صلى الله عليه وسلم من خلال الالتزام الدائم بالسنة، ومناقشة السيرة، وإرسال الصلاة والسلام، والمحبة القلبية، وليس من خلال تقليد غير المسلمين في الاحتفال بأعياد الميلاد. حجتهم هي أن انتشار هذه الاحتفالات سيشجع على التقليل من قيمة طريقة الصحابة في التعبير عن الحب والفرح، لأن الذين يعبرون عن حبهم وفرحهم بهذه الطقوس سيعتقدون أن طريقتهم أفضل من طريقة الصحابة التي كانت صامتة وغير رسمية ودائمة. ومن بين المعارضين لهذه الاحتفالات: العلامة تاج الدين عمر بن علي الفاكهاني (توفي 734 هـ / 1334 م)، والعلامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحاج (737 هـ / 1336 م)، والعالم الشهير في القرن الثامن الهجري أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي (توفي 790 هـ) وغيرهم من العلماء.

من ناحية أخرى، أجاز العديد من العلماء الاحتفال السنوي بعيد المولد النبوي في شهر ربيع الأول، بحجة أن الأعمال التي تتم في هذا الاحتفال إذا كانت جائزة شرعاً وأعمالاً صالحة، فلا يمكن تحريمها. لذا، فإن قراءة القرآن، والمواعظ، والصدقات، والأكل والشرب، وتوزيع الهدايا، والفرح البريء في الاحتفال السنوي بعيد المولد النبوي، في رأيهم، لا يكون حراماً أو مخالفاً للشريعة. بل إن من يقوم بهذه الأعمال سيحصل على الأجر حسب نيته وإخلاصه وحبه. ومن بين هؤلاء العلماء: المحدث والمؤرخ الشهير في القرن السابع الهجري العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي حافظ أبو شامة (665 هـ)، والمؤرخ والمحدث الشهير في القرن التاسع الهجري العلامة ابن حجر العسقلاني (852 هـ)، وأبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد، شمس الدين السخاوي (902 هـ / 1497 م)، والعالم الشهير في القرنين التاسع والعاشر الهجري العلامة جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي (توفي 911 هـ) وغيرهم من العلماء. (للتفاصيل، انظر: الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم، الاعتصام، 2/548؛ الصالحي، السيرة الشامية، 1/362-374).

ومع ذلك، خارج اختلاف العلماء، استمرت شعبية هذا الاحتفال في ازدياد بين عامة المسلمين، وانتشر تدريجياً في مختلف البلدان الإسلامية.

سبق أن ذكرنا أن الاحتفال بأعياد الميلاد مثل الاحتفال بذكرى الوفاة هو جزء من الثقافات غير العربية، والتي أصبحت فيما بعد متداولة في المجتمع الإسلامي. فشهر ربيع الأول هو شهر مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنه شهر وفاته. بل إنه لا يوجد أي حديث شريف يذكر شهر مولده، وقد اختلف البعض في هذا الأمر كما علمنا. ولكن لا خلاف على أن وفاته كانت يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. (أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، وقد ورد ذلك في عدة أحاديث صحيحة. ولكن لم يرد في الأحاديث الشريفة أي ذكر لتاريخ وفاته، لذا اختلف في ذلك، فقيل في الأول، وقيل في الثاني، وقيل في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين. انظر: خليفة بن خياط، التاريخ، ص94؛ ابن حبان، السيرة النبوية، ص400؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/129-130؛ الصالحي، السيرة الشامية، 12/305-306). لذلك نرى أنه في القرن السابع الهجري، كان بعض المسلمين في بعض أنحاء العالم الإسلامي يحتفلون بذكرى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، أو يقيمون "العرس"، ولم يكونوا يحتفلون بمولده. فقد كتب الصوفي الهندي الشهير خواجة نظام الدين أولياء (631-725 هـ / 1234-1325 م) أن مرشده خواجة فريد الدين مسعود گنج شكر (609-668 هـ / 1212-1270 م) كان يحتفل بالثاني من ربيع الأول كذكرى لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، على الرغم من أن الثاني عشر من ربيع الأول هو التاريخ المشهور بين المسلمين للاحتفال بالعرس. (نظام الدين أولياء، راحة القلوب، ص150).

من هذا نفهم أنه حتى نهاية القرن السابع الهجري وأوائل القرن الثامن الهجري، كان الاحتفال بالمولد النبوي غير معروف لدى الكثير من المسلمين في العديد من البلدان، وكانوا يحتفلون بذكرى الوفاة بدلاً من الاحتفال بالمولد. لكن احتفال أبو سعيد كوكبوري بالمولد النبوي انتشر تدريجياً في جميع البلدان الإسلامية، وأصبح شهر ربيع الأول فيما بعد شهراً للاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد سجل الرحالة المغربي الشهير في القرن الثامن الهجري ابن بطوطة (703-779 هـ / 1304-1377 م) في رحلته التي استمرت 27 عاماً عبر العالم الإسلامي وبعض البلدان غير الإسلامية، وصفاً مفصلاً للأعياد الاجتماعية والطقوس والمناسبات في مختلف البلدان الإسلامية. ومن خلال وصفه، نرى أن بعض المسلمين في بعض البلدان كانوا يحتفلون بالمولد النبوي في شهر ربيع الأول، ولكننا لا نرى أي ذكر للاحتفال بذكرى الوفاة أو العرس في الهند أو أي مكان آخر. (رحلة ابن بطوطة).


কপিরাইট স্বত্ব © ২০২৫ আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট - সর্ব স্বত্ব সংরক্ষিত| Design & Developed By Biz IT BD