আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট এ আপনাকে স্বাগতম

সাম্প্রতিক আপডেট

09/01/2025, 04:06:12 AM عربي

التحقق من صحة الحديث: تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة

News Image

التحقق من صحة الحديث: تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة

التحقق من صحة الحديث: تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة

التحقق من صحة الحديث:
أوامر رسول الله ﷺ ومنهج الصحابة
بقلم: الدكتور خوندكار عبد الله جاهنغير

نُشر هذا المقال في مجلة "المؤسسة الإسلامية"، السنة ٤٤، العدد الثالث، يناير - مارس ٢٠٠٥م.

١. المقدمة
القرآن الكريم وأحاديث رسول الله ﷺ هما الزاد الحقيقي لحياة المسلم. فجميع المسلمين، على اختلاف آرائهم، يريدون الاعتماد على القرآن والحديث، ويحاولون تقديم الأدلة منهما لتأييد مذاهبهم.
ومع ذلك، فثمة اضطراب شديد ناجم عن الجهل، يسود المجتمع اليوم بشأن موثوقية الحديث وقبوله.

يعتقد كثير من الناس أن "الحديث" يعني كلام رسول الله ﷺ، ولذلك فإن اعتبار حديث ما ضعيفًا أو غير موثوق به يُعدّ - في نظرهم - نوعًا من الاستخفاف بكلام رسول الله ﷺ. ويظن آخرون أنه ما دام النص يُنسب إلى النبي ﷺ، فإنه يجب قبوله والعمل به، مهما كان ضعيفًا أو غير موثوق به.

ولا شك أن هذه الفكرة خاطئة وناتجة عن الجهل. ولكن على النقيض من ذلك، هناك اضطراب أكثر خطورة ينتشر بين بعض الناس، حيث يظن بعض الجهّال أن الأحاديث، بما أنها نُقلت شفهياً وبسلاسل من الرواة، فلا بد أن تحتوي على الكثير من الأخطاء والتحريف، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها. ويرون أنه ينبغي الاكتفاء بالاعتماد على القرآن الكريم فقط لمعرفة أحكام الإسلام.

الرأي الأول يسود غالبًا بين العوام أو قليلي التعليم، أما الرأي الثاني فينتشر بين كثير ممن يُعتبرون من المثقفين وأصحاب الفكر.

والسبب الرئيس لهذين الاضطرابين هو الجهل بالمنهج الدقيق والعلمي الذي تبعه الصحابة والتابعون وأئمة الأمة الإسلامية في التحقق من صحة الأحاديث وسلاسلها.

وقد كتب هذا المقال لإزالة هذا الغموض.

نريد أن نناقش هذه القضية على مرحلتين. في هذا المقال، سنعرض أوامر القرآن والسنة بشأن توثيق الحديث، مع بيان تطبيقات الصحابة لذلك. وفي المقال التالي، سنشرح المنهج الشامل للمحدثين في نقد الأسانيد واستنباط الأحكام منها.

نسأل الله تعالى التوفيق، ونعتمد على رحمته.

٢. تعريف الحديث
الحديث يُقصد به عادةً: قول أو فعل أو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم. وكل قول أو فعل أو تقرير أو رواية نُسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قيل بأنها منه، يُطلق عليها عند المحدثين مصطلح "حديث".

وبالإضافة إلى ذلك، يُطلق اسم الحديث أيضًا على أقوال وأفعال وتقريرات الصحابة والتابعين.
فما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير يُعرف عند المحدثين بـ"الحديث المرفوع".
وما نُسب إلى الصحابي من قول أو فعل أو تقرير يُعرف بـ"الحديث الموقوف".
أما ما نُسب إلى التابعي من قول أو فعل أو تقرير، فيُعرف بـ"الحديث المقطوع".

(للمزيد من التفصيل، انظر:
العراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (ت ٨٠٦هـ)، "التقييد والإيضاح"، مؤسسة الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، ١٩٩٧م، ص: ٦٦–٧٠؛
"فتح المغيث"، القاهرة، مكتبة السنة، ١٩٩٠م، ص: ٥٢–٦٣؛
السخاوي، محمد بن عبد الرحمن (ت ٩٠٢هـ)، "فتح المغيث"، القاهرة، مكتبة السنة، الطبعة الأولى، ١٩٩٥م، ١/٨–٩، ١١٧–١٥٥؛
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت ٩١١هـ)، "تدريب الراوي"، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، السعودية، ١/١٨٣–١٩٤).

والجدير بالذكر أن كل ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو رواية، سواء كان صحيحًا بالفعل أم لا، يُطلق عليه عند المحدثين "حديث". ومن خلال التحقق من صحة هذه النسبة، قام المحدثون بتقسيم الحديث إلى أنواع متعددة بناءً على درجة الثبوت والاعتماد.

٣. أهمية الحفاظ على صحة الحديث وسلامته من الخطأ

إن "الوحي" أو المعرفة التي تُكتسب عن طريق الإيحاء الإلهي هي أصل كل الأديان. وقد انحرفت الأمم السابقة عن الطريق القويم بسبب ضياع هذه المعرفة المُوحى بها. ويمكن أن يُفقد هذا الوحي بطريقتين رئيسيتين:
١. ضياع أو تلف المعرفة الموحى بها أو الكتب السماوية بسبب الإهمال، وعدم الحفظ، وعدم العناية بالحفاظ عليها.
٢. إلحاق الكلام البشري بالوحي، أو خلط المعرفة الإلهية بالكلام البشري.
[انظر: خُندَكار عبد الله جاهنغير، العقيدة الإسلامية في ضوء القرآن والسنة (دكا: إشاعة الإسلام كُتُبخانة، الطبعة الأولى، ٢٠٠٠م)، ص ١١–١٥].

في المرحلة الأولى، تضيع المعرفة الإلهية تمامًا. وفي المرحلة الثانية، يبقى شيء من "الوحي" محفوظًا، ولكنه مختلط بأقوال ومعارف بشرية، فلا يُعرف أي جزء منه هو وحي وأي جزء منه بشري. وبهذا تصبح الكتب أو المعارف التي تُنسب إلى الوحي بلا قيمة حقيقية.

وقد حرّفت أكثر الأمم السابقة المعرفة الإلهية بهذه الطريقة الثانية. فاليهود والنصارى وسائر أتباع الديانات الأخرى يحتفظون بكتب يُطلق عليها اسم "الكتب المقدسة" أو "كلمة الله" (Divine Scripture – God's Word)، ولكن هذه الكتب تحتوي على الكثير من الكلام البشري، والقصص، والآراء الشخصية، مما يجعل الوصول إلى التعليم الإلهي الحقيقي مستحيلًا.

أما في الإسلام، فإن الوحي الإلهي يتمثل في مصدرين: القرآن الكريم، وأحاديث رسول الله ﷺ.
فالقرآن الكريم نزل باللفظ والمعنى من عند الله تعالى، وهو وحي محفوظ بحروفه وكلماته. أما الحديث، فهو شرح تطبيقي وتفصيلي للقرآن الكريم، علّمه النبي ﷺ لأمته بلغته البشرية بإلهام من الله تعالى.

ولحماية هذين المصدرين الأساسيين للوحي، اتُّخذت تدابير خاصة. فقد أُمر المسلمون بحفظ القرآن والحديث لفظًا على وجه الدقة. ومن جهة أخرى، نُهي المسلمون بشدة عن نسبة أي كلام إلى الله أو إلى رسوله ﷺ ما لم يكن ذلك ثابتًا بلا أدنى شك.

٣.١. توجيه القرآن لحفظ علم الوحي من الخطأ والتحريف
هناك مرحلتان لنشر الكذب والافتراء أو الأقوال المبنية على الظن باسم "الوحي": الأولى: أن يقول الإنسان كذبًا من نفسه باسم الوحي، والثانية: أن يقبل الكذب المنسوب إلى الوحي وينشره. ولمنع هذين الطريقين، نهى القرآن الكريم من جهة عن قول الكذب أو الأقوال الظنية باسم الله، ومن جهة أخرى نهى عن قبول أي خبر أو معلومة دون فحص وتدقيق.

٣.١.١. النهي عن الكذب والقول الظني باسم الله

لقد نهى الله تعالى في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا عن قول الكذب باسمه. ومثله أيضًا النهي الشديد عن أن يُقال شيء باسم الله اعتمادًا على الظن أو التخمين أو التصور دون علم. وإن الكذب على رسول الله ﷺ هو في حقيقته كذب على الله، لأنه ﷺ لا ينطق إلا عن الوحي من عند الله. فكما أن القرآن وحي من الله، فكذلك الحديث النبوي وحي من الله.
وقد بلغ الناسُ وحي القرآن والحديث كلاهما عن طريق رسول الله ﷺ فقط. ولذلك، فالكذب أو الافتراء أو الظن باسم رسول الله ﷺ هو كذب على الله نفسه أو قول غير علمي باسمه. وقد تكرر هذا التوجيه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.
[انظر: سورة البقرة: ٨٠، ١٦٩؛ آل عمران: ٩٤؛ النساء: ١٥٧؛ الأنعام: ٢١، ٩٣، ١١٦، ١٤٤، ١٤٨؛ الأعراف: ٢٨، ٣٣، ٣٧، ٦٢؛ يونس: ١٧، ٣٦، ٦٨، ٦٩؛ هود: ١٨؛ الكهف: ١٥؛ المؤمنون: ٣٨؛ العنكبوت: ٦٨؛ الشورى: ٢٤؛ النجم: ٢٨، ٣٢؛ الصف: ٧.]

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
Surah Al-An‘ām 6:21, 93, 144; Al-A‘rāf 7:37; Yūnus 10:17; Hūd 11:18; Al-Kahf 18:15; Al-‘Ankabūt 29:68; Aṣ-Ṣaff 61:7

وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ
Surah Ṭāhā 20:61

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
Surah Al-Baqarah 2:168–169

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
Surah Al-A‘rāf 7:33

هكذا أمرَ اللهُ تعالى في القرآن الكريم بحماية علم الوحي من كل تزوير وكذب. فقد نهى اللهُ -عزّ وجلّ- بشدّة عن قول أيّ شيء عن ذاته العليّة، أو عن رسوله الكريم ﷺ، أو عن دينه وشريعته، يكون كذباً أو اختلاقاً أو مبنياً على الظن والتخمين.

٣.١.٢. الأمرُ بوجوب التثبّت قبل قبول أيّ خبر أو رواية
إنّ الكذب على الله أو على رسوله ﷺ محرّم، وكذلك قبولُ رواية أو خبر غير موثوق، أو مبنيّ على الكذب أو الظنّ، فهو أيضاً محرّم. وقد أمر القرآن الكريم أمةَ الإسلام بالتثبّت والتحقّق قبل قبول الأخبار والروايات. قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
[سورة الحجرات: ٦]

وبناءً على هذا التوجيه الإلهي، فإنّ المسلم مأمورٌ أن يتحقّق من صدق وأمانة من يقدّم له أيّ خبر أو بيان أو شهادة أو معلومة، قبل قبولها. وهذا واجبٌ عليه. ويجب أن يكون التثبّت أشدّ وأدقّ عندما يتعلق الأمرُ بقولٍ منسوبٍ إلى رسول الله ﷺ.

لأن الاعتماد على معلومات أو شهادات خاطئة في الأمور الدنيوية قد يؤدي إلى الإضرار بأموال الناس أو أعراضهم أو حياتهم، بينما التهاون في مسائل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في علم الوحي قد يؤدي إلى فساد الإيمان وهلاك الحياة الأبدية في الآخرة. ولذلك، كانت أمة الإسلام دائماً تتحرى وتفحص جميع الرسائل والأحاديث والروايات قبل قبولها.

٣.٢. توجيه النبي ﷺ لحفظ صحة الحديث والتحقق منه

لقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التدابير لمنع طريقي التحريف المذكورين أعلاه، حفاظاً على أقواله وتعاليمه من الخطأ، ولكي تصل سنته وهديه إلى الأمة نقية وصحيحة. ولهذا، أمر ﷺ الأمة بحفظ حديثه وتعاليمه عن ظهر قلب ونقلها كما هي، وفي الوقت نفسه حذرهم من إدخال أي كلام أو رأي بشري فيها.

٣.٢.١. الأمر بحفظ الحديث ونقله بدقة

في أحاديث متعددة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ كلامه كما هو ونشره. قال جُبير بن مطعم رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"نضَّر اللهُ عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع."

وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن عدد من الصحابة وتم جمعها في كتب الحديث.

[انظر: الترمذي ٥/٣٣-٣٤، أبو داود ٣/٣٢٢، ابن ماجه ١/٨٤-٨٦، ابن حبان ١/٢٦٨،٢٧١،٤٥٥، الحاكم ١/١٦٢،١٦٤، الهيثمي ١/١٣٨-١٣٩]

٣.٢.٢. النهي عن الكذب على رسول الله ﷺ
ومن جهة أخرى، حتى لا يُنسب إليه ﷺ أي قول بشري، فقد نهى الأمة نهيًا شديدًا عن الكذب عليه أو اختلاق الأحاديث ونسبتها إليه.
قال عليّ رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ:
«لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ»
[رواه البخاري ١/٥٢، ومسلم ١/٩، وفتح الباري ١/١٩٩]

وقال الزبير بن العوّام رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ:
«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
[رواه البخاري ١/٥٢]

وقال سَلَمَة بن الأكوع رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ:
«مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
[رواه البخاري ١/٥٢]

وقد روى هذا التحذير عن رسول الله ﷺ نحو مئة من الصحابة، منهم العشرة المبشّرة بالجنة، ولم يُروَ حديثٌ بهذا العدد من الصحابة في غير هذا الباب.
[النووي، شرح صحيح مسلم ١/٦٨؛ ابن الجوزي، الموضوعات ٢٨–٥٦]

٣.٢.٣. النهي عن الإكثار من رواية الحديث والنقل من غير حفظ

كثرة رواية الأحاديث قد تؤدي إلى الخطأ، ولهذا حذّر رسول الله ﷺ أمته من ذلك، ونهى عن رواية الحديث إلا لمن كان ضابطًا له حفظًا ودقةً.

١. عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ وهو على المنبر:

إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي! فَمَنْ قَالَ عَنِّي فَلْيَقُلْ حَقًّا وَصِدْقًا، وَمَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
— [ابن ماجه ١/١٤، صحيح سنن ابن ماجه ١/٢٩، سنن الدارمي ١/٨٢، المستدرك للحاكم ١/١٩٤]

٢. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:

اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ
— [الترمذي ٥/١٨٣]

٣. عن أبي موسى مالك بن عبادة الغافقي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ في آخر وصاياه لنا:

عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
— [مسند أحمد ٤/٣٣٤، المستدرك للحاكم ١/١٩٦، مجمع الزوائد ١/١٤٤]

وهكذا، يتبين من هذه الأحاديث أن رسول الله ﷺ أمر أمته أن تحفظ حديثه بدقة وأن لا ترويه إلا من كان حافظًا له ضبطًا. وقد نهى عن رواية الحديث مع وجود شك أو دون حفظ تام، لأن نسبة قولٍ إليه لم يقله - عمدًا أو سهوًا - يُعد من أكبر الكبائر.

وكان الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب في غاية الحذر والاحتياط.

النهي عن قبول الحديث المكذوب والتحذير من الكذابين في الحديث

كما أن الكذب على رسول الله ﷺ حرام، فكذلك قبول الحديث المكذوب عنه، ونشره، وروايته دون تحقق وتثبت، كل ذلك محرم. وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك بألفاظ وتحذيرات متنوعة.

وقد أخبر ﷺ أن في أمته سيظهر قوم يكذبون عليه ويضعون الأحاديث، فحذر منهم.

١. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

سَيَكُونُ فِيْ آخِرِ الزَّمَانِ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِيْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ
رواه مسلم (١/١٢)

٢. عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

لَا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى يَطُوْفَ إِبْلِيْسُ فِي الْأَسْوَاقِ، يَقُوْلُ: حَدَّثَنِيْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِكَذَا وَكَذَا
رواه ابن عدي وأحمد، وانظر: الكامل في ضعفاء الرجال (١/١١٥)

٣. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَتَمَثَّلُ فِيْ صُورَةِ الرَّجُلِ، فَيَأْتِي الْقَوْمَ، فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ، فَيَتَفَرَّقُونَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ، يُحَدِّثُ
ذكره ابن عبد البر وغيره.

نهى رسول الله ﷺ عن قبول الحديث دون تحقق، وإن نقل الإنسان الحديث مما سمعه دون تحقق، فإنه يكون آثماً في الحديث، لأنه بذلك كذب على النبي ﷺ بسبب إهماله في التثبت.

وقد ورد في الحديث أن مجرد قبول الحديث دون التثبت كافٍ ليجعل الإنسان كاذباً في الحديث، وإذا روى الإنسان حديثاً مع وجود شك في صحة الحديث أو ثبوته، فإنه أيضاً يُعتبر كاذباً في الحديث ويُحاسب على ذلك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.
[رواه مسلم، صحيح مسلم ١/١٠]

وعن سامرَةَ بن جندب ومُغيرة بن شُعبة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله ﷺ:
مَنْ حَدَّثَ عَنِّيْ حَدِيْثًا وَهُوَ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ.
[رواه مسلم، صحيح مسلم ١/٩]

٤. منهج الصحابة في الحفاظ على صحة الحديث وسلامته من الخطأ

إن التوجيهات العامة في القرآن والحديث حول الحفظ الدقيق والخالص للعلم الإلهي، وتوجيهات النبي ﷺ الخاصة في حفظ الحديث من الخطأ والتحريف دفعت الصحابة رضي الله عنهم إلى اتباع مناهج متنوعة لضمان صحة الحديث وسلامته.

فكانوا حريصين جدًّا في رواية الحديث، فلا يروون حديثًا حتى يتيقنوا من حفظه الكامل والصحيح، وكانوا يشجّعون الآخرين أيضًا على الحفظ الدقيق الحرفي للحديث، ولا يقبلون رواية أي راوٍ – سواء من الصحابة أو التابعين – إلا بعد التحقق من دقة روايته باستخدام وسائل مختلفة.

٤.١ بذل الجهد الكامل في رواية الحديث حرفيًّا وبدقة

كان الصحابة يبذلون أقصى جهد في رواية الحديث حرفيًا وبدقة تامة، ولا يقبلون رواية غيرهم إلا بعد التأكد من صحتها، وقد رُويت وقائع كثيرة عن حرصهم في كتب الحديث، وإليكم بعض النماذج:

قال التابعي عمرو بن ميمون الأزدي (ت ٧٤ هـ):
ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط قال رسول الله ﷺ، فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله ﷺ، فَنَكَسَ، قال: فنظرت إليه فهو قائم محلَّلة أزرار قميصه قد اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك، أو شبيهًا بذلك.
[ابن ماجه ١/١٠–١١، الدارمي ١/٨٨، أحمد ١/٤٥٢، الحاكم ١/١٩٤، البوصيري في مصباح الزجاجة ١/٧]

وقال التابعي مسروق بن الأجدع أبو عائشة (ت ٦١ هـ):
إن عبد الله حدَّث يومًا عن رسول الله ﷺ، فارتعد وارتعدت ثيابه، ثم قال: أو نحو هذا.
[الحاكم، المستدرك ١/١٩٣]

قال محمد بن سيرين (١١٠ هـ):
كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا، فَفَرَغَ مِنْهُ قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
[ابن ماجه، السنن ١/١١]

عن سعد بن عبادة السلمي، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله ﷺ:
بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ.
فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟
قال: لَا، صِيَامُ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ، هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
[مسلم، الصحيح ١/٤٥]

قال التابعي يافور بن رُؤَي:
سمعتُ عبيد بن عمير (ت ٧٢ هـ) – وكان من كبار التابعين، وواعظاً مشهوراً بمكة – يقول في موعظة له:
قال رسول الله ﷺ: مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين.
فلما سمع ذلك الصحابي عبد الله بن عمر (ت ٧٣ هـ) قال:
ويلكم! لا تكذبوا على رسول الله ﷺ، إنما قال رسول الله ﷺ: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين.
[أحمد، المسند ٢/٨٨؛ مسلم بن الحجاج، كتاب التمييز، مكتبة الكوثر، الرياض، الطبعة الثالثة، ١٩٩٠م، ص ١٧٣-١٧٤]

وكان أغلب الصحابة رضوان الله عليهم يتحرجون من رواية الحديث عن رسول الله ﷺ إلا ما تيقنوا من حفظه وضبطه، حرصاً منهم على عدم الوقوع في الكذب عليه ﷺ أو نقل شيء خاطئ عنه.

كان كثيرٌ من الصحابة لا يروون عن رسول الله ﷺ شيئًا البتة. ويتّضح هذا الأمر من خلال المقارنة بين عدد الصحابة الذين لاقوا رسول الله ﷺ، وعدد الصحابة الذين رووا الأحاديث عنه.

فعدد الصحابة الذين عاشوا مع النبي ﷺ ولقوه وكان لهم به صُحبة، يُقدَّر بأكثر من مائة ألف. أما عدد الصحابة المشهورين الذين عُرفوا بأسمائهم وأنسابهم فيبلغ أكثر من عشرة آلاف.

ومع ذلك، فإن عدد الصحابة الذين رووا الأحاديث عن رسول الله ﷺ لا يتجاوز ألفًا وخمسمائة تقريبًا.

وأشهر كتابٍ حديثي مرتب على أسماء الصحابة هو مسند الإمام أحمد. فقد جمع فيه الإمام أحمد جميع الأحاديث المقبولة من حيث الجملة – سواء كانت صحيحة أو ضعيفة – وروى فيه عن ٩٠٤ من الصحابة.

وإذا جمعنا أسماء جميع الصحابة الذين وردت عنهم روايات – سواء كانوا معروفين أو مجهولين، ثقات أو غير ثقات – فإن العدد يبلغ ١٥٦٥ صحابيًا.

ومن الملاحظ أيضًا أن غالبية هؤلاء الصحابة الذين رووا الأحاديث لم يرووا إلا حديثًا واحدًا إلى عشرين أو ثلاثين حديثًا فقط، وعدد من رووا أكثر من مئة حديث لا يتجاوز ٣٨ صحابيًا فقط.

من بين هؤلاء، فقط سبعة من الصحابة رواياتهم تجاوزت الألف حديث. أما الـ 31 صحابيًا الباقون، فرواياتهم تتراوح بين المئة وبضع مئات من الأحاديث. [للتفاصيل انظر: ابن حزم، علي بن أحمد (456 هـ)، أسماء الصحابة الرواة (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1992)]

وقد وردت العديد من الروايات عن الصحابة تبين تحرزهم من رواية الحديث خشية الوقوع في الخطأ غير المقصود.

كان السائب بن يزيد (ت 91 هـ) من الصحابة. في صغره صحب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ثم عاش بقية حياته في صحبة الصحابة. قال:
"صَحِبْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَتَحَدَّثُ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ."
[ابن عدي، عبد الله الجرجاني (365 هـ)، الكامل في ضعفاء الرجال (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1997) 1/93.]

وقال أيضًا:
"صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ."
[ابن ماجه، السنن 1/12؛ الألباني، صحيح سنن ابن ماجه 1/28.]

وقال عامر بن شراحيل الشعبي (ت 204 هـ)، أحد كبار التابعين في القرن الأول الهجري:
"جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا."
[ابن ماجه، السنن 1/11؛ الألباني، صحيح سنن ابن ماجه 1/26.]

وفي رواية أخرى قال:
"قَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هَذَا (حَدِيثًا وَاحِدًا)."
[البخاري، الصحيح 6/2652؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 13/243.]

قال الصحابي عبد الله بن الزبير (رضي الله عنه): قلت لأبي الزبير بن العوام (رضي الله عنه): لماذا لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعض الصحابة؟ فقال:
«أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
[البخاري، الصحيح ١/٥٢؛ ابن حجر، فتح الباري ١/٢٠٠.]

فسبب امتناع الزبير بن العوام (ت ٣٦ هـ) عن رواية الحديث ليس الجهل. فقد أسلم في صغره في بداية النبوة، وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم قرابة عشرين سنة، ثم عاش بعد وفاته حوالي خمسة عشر عامًا. ومع ذلك، لم يروِ عنه إلا أقل من أربعين حديثًا. ففي مسند أحمد رُوِيَ عنه ستة وثلاثون حديثًا، وذكر ابن حزم أن مجموع ما رُوِيَ عنه في جميع الأسانيد – الصحيحة والضعيفة – ثمانية وثلاثون حديثًا فقط. [ابن حزم، أسماء الصحابة الرواة، ص: ٩٥.]

نرى هنا أنه كان يتحاشى رواية الحديث خشية الخطأ غير المقصود، لأن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وعيده النار، وحتى التغيير اللفظي غير المقصود قد يدخل في الكذب. لذا كان يمتنع عن الرواية في أغلب الأحيان.

وكذلك كان غيرهم من الصحابة يتحاشون الرواية لهذا السبب. قال التابعي عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت ٨٣ هـ):
«قُلْنَا لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (ت ٦٨ هـ): حَدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: كَبِرْنَا وَنَسِينَا، وَالْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَدِيدٌ».
[ابن ماجه، السنن ١/١١.]

قال الصحابي صهيب بن سنان (رضي الله عنه):
"هَلُمُّوا أُحَدِّثُكُمْ مِنْ مَغَازِينَا، فَأَمَّا أَنْ أَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا."
[البلاذري، أحمد بن يحيى (٢٧٩ هـ)، أنساب الأشراف (القاهرة، محمد عبد الحميد، ١٩٥٩) ١/١٨٣.]

وقال التابعي هاشم هرمزي: كان أنس بن مالك (رضي الله عنه) يقول:
"لَوْلَا أَنْ أَخْشَى أَنْ أُخْطِئَ لَحَدَّثْتُكُمْ بِأَشْيَاءَ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ قَالَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ."
[أحمد، المسند ٣/١٧٢.]

وقال التابعي عبد الرحمن بن كعب بن مالك (ت ٩٨ هـ):
قلت لأبي قتادة (رضي الله عنه): حدثني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:
"إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَزِلَّ لِسَانِي بِشَيْءٍ لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ."
[الحاكم، المستدرك ١/١٩٥.]

وهكذا كان الصحابة يتحاشون رواية الحديث خشية الخطأ غير المقصود. واللافت هنا أن أنس بن مالك وأبا قتادة كلاهما يذكران أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الكذب المتعمد، لكنهما مع ذلك كانا يتجنبان الرواية خوفًا من الخطأ غير المتعمد.

4.2. التحقق من دقة الحديث بالمقارنة والتدقيق

لأن عدم الحذر من الخطأ مع العلم بإمكانية وقوعه يعتبر "تعمداً لإتاحة الفرصة للخطأ غير المقصود". وعدم التحصن الكامل من الأخطاء غير المقصودة يعني التساهل مع التحريف المتعمد. لذلك، من يخطئ بسبب عدم تحرزه من الخطأ غير المقصود، يكون قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمداً. لا يمكن للمؤمن أن يكون غير حريص فيما يتعلق بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4.2.1. التدقيق المقارن لتحديد دقة الرواية وصحتها

نفهم من هذا أن هناك مستويين للخطأ في رواية الحديث: المتعمد وغير المتعمد. وقد اتخذ الصحابة إجراءات صارمة ضد كلا النوعين من الأخطاء والضعف.

في عصرهم، لم يكن أي صحابي يكذب، وكانوا يبذلون قصارى جهدهم لرواية الحديث بدقة دون أي تقصير. ومع ذلك، إذا شكوا في احتمال وجود خطأ في رواية صحابي ما، كانوا يتحققون من الرواية بالمقارنة والموازنة (المعارضة والمقابلة والموازنة) قبل قبولها. وكانت عملية التدقيق المقارن تتم بعدة طرق:

  1. عرض الحديث على المصدر الأصلي: تقديم الرواية (الكلام، التوجيه، أو الوصف) إلى الشخص الأصلي (النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي الذي سمعه منه) للتحقق من دقتها وصحتها.

  2. مقارنة الرواية مع روايات أخرى: مقارنة الكلام أو التوجيه أو الوصف المروي مع رواية شخص آخر أو عدة أشخاص للتحقق من صحتها ودقتها.

  3. مقارنة الرواية مع روايات الراوي نفسه في أوقات مختلفة: مقارنة الرواية مع ما رواه نفس الراوي في مناسبات أخرى للتحقق من اتساقها.

  4. استجواب الراوي أو أخذ القسم منه: توجيه أسئلة مفصلة للراوي أو أخذ قسم منه لتأكيد دقة الرواية.

  5. مطابقة معنى الرواية مع القرآن والأحاديث المعروفة: مقارنة معنى الكلام أو التوجيه أو الحديث مع المبادئ المعروفة في القرآن والسنة.

من خلال هذه الأساليب، كانوا يتحققون مما إذا كان الراوي قد حفظ الحديث ورواه بدقة. وفي مصطلحات الحديث، يسمى هذا "الضبط". ويمكننا تسميته في اللغة العربية "دقة الرواية" أو "قدرة الراوي على الرواية بدقة".

من عصر الصحابة إلى العصور اللاحقة، ظلت هذه الأساليب في التدقيق هي الطريقة الأساسية التي اتبعها المحدثون لتحديد "دقة الرواية" وصحة الحديث. كما نعلم، هذه نفس الطريقة التي تتبعها المحاكم في جميع أنحاء العالم للتحقق من صحة الشهادة ودقتها. إنها الطريقة العلمية لتحديد صحة أي رواية أو شهادة. وسنناقش هنا بعض الأمثلة من عصر الصحابة.

٤.٢.٢. عرض الرواية على مصدرها الأصلي

أفضل طريقة للتحقق من صحة أي شهادة أو رواية هي سؤال صاحب القول الأصلي. في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا شك صحابي في دقة رواية صحابي آخر، كانوا يستوثقون من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة. وردت العديد من القصص في الأحاديث توضح ذلك، وسنذكر هنا اثنتين أو ثلاثًا منها.

١. رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن حجة الوداع:

وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ... فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا. قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ. فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ».

(قبل حجة الوداع، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه واليًا على اليمن). فجاء علي رضي الله عنه من اليمن إلى مكة للحج. فلما وصل، وجد فاطمة رضي الله عنها قد أحلت من عمرتها ولبست ثيابًا مصبوغة ووضعت الكحل. فاعترض علي على ذلك، فقالت: "إن أبي أمرني بهذا". فقال علي: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو فاطمة لما فعلت، وأستفتيه في ما ذكرته عنه، وأخبرته أني أنكرت عليها ذلك... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ». [مسلم، الصحيح ٢/٨٨٦-٨٩٢].

هنا نرى أن عليًا رضي الله عنه شك في دقة رواية فاطمة رضي الله عنها. لم يشك في صدقها، لكنه شك في فهمها وتناقلها الدقيق لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. لذا استوثق من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.

٢. رواية أبي بن كعب رضي الله عنه:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (تَبَارَكَ) [سورة الفرقان] وَهُوَ قَائِمٌ، فَذَكَّرَنَا بِأَيَّامِ اللَّهِ. وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَوْ أَبُو ذَرٍّ يَغْمِزُنِي فَقَالَ: مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا إِلَّا الْآنَ. فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: سَأَلْتُكَ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فَلَمْ تُخْبِرْنِي؟ فَقَالَ أُبَيٌّ: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا لَغَوْتَ. فَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالَ أُبَيٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ أُبَيٌّ».

في يوم الجمعة، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "تبارك" (سورة الفرقان) وهو قائم في الخطبة، وذكرنا بأيام الله. وكان أبو الدرداء أو أبو ذر يغمزني قائلاً: "متى نزلت هذه السورة؟ إني لم أسمعها إلا الآن". فأشار إليه أبي أن يصمت. بعد الصلاة، قال له: "سألتك متى نزلت هذه السورة فلم تخبرني؟" فقال أبي: "ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت". فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك، وأخبره بما قال أبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ أُبَيٌّ».

٣. رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:
حَدَّثَتْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ». فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو؟». قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قُلْتَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ»، وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا! فَقَالَ: «أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ».
[مسلم، الصحيح ١/٥٠٧].

خاتمة:
ففي هذه الأمثلة وغيرها من الأحاديث نرى أن الصحابة رضي الله عنهم إذا شكوا في دقة رواية ما، كانوا يرجعون مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتحقق. لم يكونوا يشككون في صدق الراوي، بل في فهمه الدقيق للنص وضبطه للرواية. وهذه أعلى درجات التوثيق العلمي التي تميزت بها الأمة الإسلامية في حفظ السنة.

4.2.3. طرح الأسئلة على الآخرين للتحقق من صحة البيان
الطريقة الثانية للتحقق من صحة الشهادة أو البيان هي البحث عما إذا كان شخص آخر قد سمع البيان وكيف سمعه. هذه طريقة عالمية لتحديد دقة أي شهادة أو بيان. في جميع المحاكم، يصدر القضاة أحكامهم من خلال المقارنة والتدقيق بين شهادات شهود متعددين. تطابق شهادات الشهود المتعددين يثبت صحة الأمر، بينما التناقض يضعف مصداقيته.

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، اتبع الصحابة هذه الطريقة. إذا شك أي منهم في صحة أو دقة حديث مروي عن صحابي، كانوا يسألون الصحابة الآخرين أو يطلبون من الراوي تقديم شاهد.

عندما كان شخص واحد أو أكثر يقولون إنهم سمعوا الحديث نفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقبلون الحديث. بدأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الممارسة، واتبعه الخلفاء اللاحقون وجميع علماء الحديث في كل العصور.

نذكر هنا بعض الحوادث من عصر الصحابة:

  1. قال الصحابي قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه (ت 84 هـ):
    «جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ. فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ».

[مالك بن أنس (179 هـ)، الموطأ (القاهرة: دار إحياء التراث العربي، 1951)، 2/513.]

نرى هنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه علمنا أعلى درجات الحذر في قبول الحديث. كان يمكنه الاعتماد على رواية المغيرة بن شعبة وحده، لأنه كان صحابياً مشهوراً وقائداً معروفاً من قريش. في أي سياق اجتماعي، كانت شهادته وحدها كافية. ومع ذلك، تحلى أبو بكر بالحذر. رغم أن ثقة المغيرة كانت لا شك فيها، إلا أن ذاكرته قد تخون أو قد يكون فهمه خاطئاً. لذا سأل عما إذا كان هناك شخص آخر يعرف الحديث. وبعد تأكيد شاهد ثانٍ، قبل الحديث.

ولهذا وصف المحدثون أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأنه "أبُو نقد الحديث". قال الحاكم النيسابوري (405 هـ) عنه:
«أول من وقى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم».
[محمد مصطفى الأعظمي، منهج النقد عند المحدثين (الرياض: مكتبة الكوثر، الطبعة الثالثة 1990)، ص 10.]

العلامة محمد بن طاهر ابن القيسراني (507 هـ) يقول في سيرة الصديق الأكبر:
«وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ.»
[محمد بن طاهر ابن القيسراني (507 هـ)، تذكرة الحفاظ (الرياض: دار الصميعي، الطبعة الأولى، 1415 هـ)، 1/2.]

2. الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) اتبع منهج سلفه الصديق الأكبر في هذا الأمر.
في مواقف متعددة، كان يطلب من الصحابة إحضار شاهد آخر لتأكيد صحة الحديث المروي. نذكر هنا بعضاً من هذه الوقائع:

قال أبو سعيد الخدري (رضي الله عنه):
«كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ". فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ! أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟" فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ. فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ.»

فَقَالَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): "وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَيِّنَةً!"
(قَالَ أَبُو مُوسَى): "هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟"

فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): "وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ!"
(قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ): "فَكُنْتُ أَنَا أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ."
[صحيح البخاري (5/2305)، فتح الباري (11/26-27)، صحيح مسلم (3/1694).]

3. وَقَالَ التَّابِعِيُّ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ (94 هـ):
"إِنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السِّقْطِ؟
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.
فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا!
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا."
[صحيح البخاري (6/2531)، فتح الباري (12/247)، صحيح مسلم (3/1311).]

4. قال الصحابي عمرو بن أمية الضمري (رضي الله عنه):
"إِنَّ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) مَرَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يُسَاوِمُ بِمِرْطٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَأَتَصَدَّقَ بِهِ. فَاشْتَرَاهُ فَدَفَعَهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ فَهُوَ صَدَقَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ فَأَتَى عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) فَقَامَ وَرَاءَ الْبَابِ، فَقَالَتْ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمْرٌو. قَالَتْ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ فَهُوَ صَدَقَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ."
[البيهقي، السنن الكبرى (4/178)، الهيثمي، مجمع الزوائد (4/324-325).]

5. قال التابعي الوليد بن عبد الرحمن الجرشي:
"إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى انْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ، أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ."
[أحمد، المسند (2/2)، الحاكم، المستدرك (3/584).]

4.2.4. مقارنة روايات الراوي في أوقات مختلفة
طريقة أخرى للتحقق من صحة الشهادة أو البيان هي سؤاله عن الموضوع نفسه في مناسبات متعددة. إذا تطابقت الإجابات، ثبتت دقة الرواية، وإذا اختلفت، زعزعت مصداقيتها. اتبع الصحابة هذه الطريقة في تقييم الأحاديث. انظر المثال التالي:

قال التابعي عروة بن الزبير (رحمه الله):
"قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي، بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَارٌّ بِنَا إِلَى الْحَجِّ، فَالْقَهُ فَسَائِلْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا كَثِيرًا. فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالًا يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ. قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، أَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَأَنْكَرَتْهُ، قَالَتْ: أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا؟! قَالَ عُرْوَةُ: حَتَّى إِذَا كَانَ قَابِلٌ، قَالَتْ لِي: إِنَّ ابْنَ عَمْرٍو قَدْ قَدِمَ، فَالْقَهُ ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ فِي الْعِلْمِ. فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ، فَذَكَرَهُ لِي نَحْوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: مَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا وَلَمْ يَنْقُصْ."
[صحيح مسلم (4/2058-2059).]

٤. ٢. ٥. التحقق من صحة الرواية باستحلاف الراوي  

للتأكد من دقة الرواية أو الشهادة، كان يُستحلف الراوي أو الشاهد عند الحاجة. فالصادقون المتقون لا يكذبون عمداً، لكن قد تخونهم ذاكرتهم أو يقعون في خطأ غير مقصود. أما إذا أقسم بالله، فلن يقول شيئاً إلا إذا كان متأكداً تماماً.  

لذلك، يُعد الاستحلاف وسيلة فعالة للتحقق من صحة شهادة أو رواية الشخص الصادق. أما الكاذب، فلا يكفيه القسم، بل يجب اختباره بالاستجواب المتقاطع (cross interrogation) للتحقق من صحة أقواله.  

كان الصحابة جميعاً صادقين متقين لله تعالى. ومع ذلك، ولتجنب الأخطاء غير المقصودة، كان الصحابة أحياناً يستحلفون راوي الحديث. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:  

**"إِنِّي كُنْتُ رَجُلاً إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً نَفَعَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ، وَإِذَا حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ."**  [الترمذي، السنن ٢/٢٥٧-٢٥٨؛ ابن ماجه، السنن ١/٤٤٦.]

٤. ٢. ٦. مقارنة معنى الرواية بالقرآن والأحاديث المتواترة  

كان الصحابة يفحصون ليس فقط صحة السند بل أيضاً معنى الحديث. فإذا تعارضت رواية ما مع نص قرآني صريح أو حديث مشهور، كانوا يرفضونها - ليس لأنهم يشكّون في صدق الراوي، بل لأنهم يفترضون أنه أخطأ في الفهم أو النقل. إليكم مثالين:  

١. قال التابعي أبو الحسن الأعرج:  

"إن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار. قال: فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض! (وفي رواية أخرى: فغضبت غضباً شديداً فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض!) فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة"، ثم قرأت عائشة: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾."   [أحمد، المسند ٦/١٥٠، ٢٤٦.]  

هنا رفضت عائشة رضي الله عنها رواية أبي هريرة بناءً على ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الآية القرآنية.

٢. قالت عمرة بنت عبد الرحمن:  

"أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: (في رواية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَكِنَّهُ نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَ (وفي رواية لمسلم: وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ) (وفي رواية للترمذي: وَلَكِنَّهُ وَهِمَ)؛ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» (وفي رواية لمسلم: لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)." [مسلم، الصحيح ٢/٦٤٠-٦٤٣؛ الترمذي، السنن ٣/٣٣٧.]

٣. قالت الصحابية فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: إن زوجها طلقها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لا تستحق السكنى والنفقة أثناء العدة. فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك قال:  

"لا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ (لَا نَدْرِي أَحْفَظَتْ ذَلِكَ أَمْ لَا)، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾."  

[مسلم، الصحيح ٢/١١١٨؛ أبو داود، السنن ٢/٢٩٧.]

٤. ٣. ذكر اسم الراوي والتحقق من صدقه  

في العصر الأول للصحابة، كان الصحابة أنفسهم يروون الأحاديث. فكان صحابي يروي لصحابي آخر، أو يعلّم التابعين من الجيل التالي. وبعد ٢٠-٢٥ سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي العديد من الصحابة، بينما بدأ بعض التابعين برواية الأحاديث وتعليمها. في هذه المرحلة، ظهرت بعض حالات الكذب المتعمد بين بعض التابعين حديثي الإسلام، مما دفع الصحابة إلى تشديد ضوابط قبول الأحاديث.  

عندما كان صحابي يروي حديثاً لصحابي آخر، لم يكن الراوي يشك في صدقه أو يسأل عما إذا سمعه مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر. فكل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أناساً عظماء منوّرين بنوره، غير متساهلين في الصدق. لكن احتمال النسيان أو الخطأ غير المقصود أو سوء الفهم جعلهم يفحصون الأحاديث بالطرق المذكورة سابقاً.  

أما بالنسبة لروايات التابعين، أضاف الصحابة شرطين:  

١. **فحص عدالة الراوي (الصدق والاستقامة)**  

٢. **طلب السند (مصدر الرواية)**  

في مصطلح علم الحديث يُسمى الأول "التحقق من العدالة" والثاني "إثبات السند".  

في عهد خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه (23-35 هـ)، ظهرت دعايات مضللة بين المسلمين الجدد في المناطق البعيدة عن مركز المدينة، مما تسبب في انقسامات وصراعات داخل الأمة الإسلامية، وظهر نقص في الصدق بين بعض المسلمين الجدد. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الصحابة بتطبيق الطريقتين المذكورتين أعلاه.  

قال التابعي المشهور محمد بن سيرين (110 هـ):  

"لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ."  [مسلم، الصحيح 1/15]  

وقال الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنه (68 هـ):  

"إِنَّمَا كُنَّا نَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَالْحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا إِذْ رَكِبْتُمْ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فَهَيْهَاتَ."  [مسلم، الصحيح 1/13]  

وقال التابعي مجاهد (104 هـ):  

"جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَالِي لَا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَسْمَعُ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا نَعْرِفُ."

فقال بشير: "يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟!"  

فرد ابن عباس:  

"إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف."  

[الذهبي، محمد بن أحمد (748 هـ)، سير أعلام النبلاء (بيروت، مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة، 1413 هـ) 4/351.]

٤. ٤. التشجيع على التحري في رواية الحديث وقبوله  

من خلال ما سبق نرى أن الصحابة كانوا يتحلون بأعلى درجات الحذر في رواية الحديث وقبوله، كما كانوا يحثون الآخرين على ذلك. ولم يكن يسمح بأي تساهل في هذا الأمر. فقد نهوا عن قبول الأحاديث دون تمحيص.  

بل كانوا يمنعون من يخشى عليه الخطأ غير المقصود في الرواية، أو من يخشى أن يخطئ السامعون في فهم حديثه. إليك بعض الأمثلة:  

١. قال التابعي أبو عثمان النهدي: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:  

"بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع."   [مسلم، الصحيح 1/11.]  

٢. قال التابعي أبو الأحوص: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:  

"بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع."  [مسلم، الصحيح 1/11.]  

٣. قال إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (95 هـ) - الفقيه والمحدث المشهور:  

"بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي مسعود الأنصاري فقال: ما هذا الحديث الذي تكثرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد."  

[الطبراني، سليمان بن أحمد (360 هـ)، المعجم الأوسط (القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1996) 4/86، رقم 3449؛ الهيثمي، مجمع الزوائد 1/149؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 7/206، 11/555.]

هؤلاء الصحابة الثلاثة كانوا شديدي الحذر في رواية الحديث. لم يشك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صدقهم أو قدرتهم على الرواية، لكنه خشي من الأخطاء غير المقصودة عند كثرة الرواية.

خصوصاً في المناطق النائية مثل الكوفة أو الشام حيث كان معظم المسلمين الجدد من غير العرب في الأيام الأولى للفتوحات الإسلامية. كان هناك خطر أن يفهم المستمعون الحديث بشكل خاطئ أو لا يحفظوه بدقة. لذلك، أمرهم عمر بالبقاء في المدينة للحفاظ على صحة الحديث.

٥. الخاتمة: منهج المحدثين اللاحقين في الحفاظ على صحة الحديث  

من المناقشة أعلاه نرى أن الصحابة اتبعوا منهجاً صارماً في التحقق من صحة الأحاديث. ومنذ عصر التابعين، اتبع المحدثون هذه الأساليب نفسها. نأمل مناقشة منهج المحدثين من القرن الثاني الهجري فصاعداً في مقال منفصل.

باختصار، اعتمد علماء الحديث على أمرين رئيسيين مستوحين من ممارسات الصحابة:

١. **التحقق من عدالة الراوي** (النزاهة الشخصية والتدين).  

٢. **التحقق من ضبط الراوي** (دقته في النقل).  

لضمان العدالة، كان العلماء يفحصون حياة الراوي الشخصية أو يستشيرون علماء آخرين عنه. ولضمان الضبط، كانوا يقارنون رواياته بروايات أخرى لنفس الحديث.

اتبع المحدثون منهجاً يشبه التحقيق القضائي (الاستجواب المتقاطع)، حيث جمعوا كل المعلومات المتعلقة بالراوي: هويته، جميع رواياته، شيوخه، زملائه الطلاب، ورواياتهم. ثم قارنوا كل هذه البيانات لتحديد صحة الحديث.


كانت القاعدة الأساسية: **"لا نقبل إلا ما رواه العدل الضابط"** (الشخص الأمين الدقيق). فلا تقبل رواية الصادق إذا أخطأ، ولا رواية الكاذب وإن أصاب.

منح الله تعالى هذه الأمة في عصورها الأولى التوفيق لحفظ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذا المنهج الدقيق.

من القرن الأول الهجري، جال الصحابة والتابعون والعلماء في كل قرية ومدينة في العالم الإسلامي لجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعلومات عن الرواة.  

كل محدث كبير قضى سنوات أو عقوداً في السفر إلى كل منطقة، يستمع إلى الأحاديث من كل راوٍ ويدونها. عند قبول الحديث، كانوا يفحصون دقته بطرح أسئلة مفصلة على الراوي.  

كما استفسروا عن عدالة الراوي (نزاهته الشخصية)، وشيوخه، وغيرهم من رواة المنطقة من خلال علماء ومحدثين طلاب العلم هناك. وبمقارنة كل هذه البيانات، أصدروا أحكاماً دقيقة عن كل راوٍ وحديثه.  

لم يقبلوا أي حديث بدون سند. كان على الراوي ذكر سلسلة الرواة من شيخه حتى النبي صلى الله عليه وسلم. في القرنين الثاني والثالث الهجري، إذا قال الراوي: "حدثني (أ)، عن (ب)، عن (ج)، عن الصحابي..."، جمع المحدثون كل روايات تلاميذ (أ)، و(ب)، و(ج)، وتلاميذ ذلك الصحابي، وقارنوها للتحقق من دقة الراوي.  

نختم بمثال: عبد الله بن لهيعة (174 هـ)، الفقيه والمحدث المصري المشهور. بعد فحص رواياته، وجد المحدثون نسبة عالية من الأخطاء. جمعوا رواياته من تلاميذه، ثم روايات شيوخه من تلاميذ آخرين، وبالمقارنة، حكموا بضعفه.  

قال الإمام مسلم: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة أن موسى بن عقبة (141 هـ) كتب إليه أن بسر بن سعيد أخبره أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:  

"احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ".  

فسأل إسحاق بن عيسى ابن لهيعة: "أفي مسجد بيته؟"، فقال: "في المسجد النبوي".  

علق الإمام مسلم: "هذا الحديث مضطرب سنداً ومتناً. أخطأ ابن لهيعة في المتن والسند". ثم ساق الرواية الصحيحة:  

حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا وهيب بن خالد بن عجلان (165 هـ)، عن موسى بن عقبة، سمعت أبا النضر سالم بن أبي أمية (129 هـ) عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت:  

"اتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِي..."

قال الإمام مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفارسي (145 هـ)، حدثنا أبو النضر سالم، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:  

"احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَصْفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ..."  

(أي بنى غرفة صغيرة في المسجد)  

وهكذا نجد الرواية الصحيحة من طريق وهيب بن خالد (165 هـ) عن موسى بن عقبة عن أبي النضر. كما أضفتُ رواية عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفارسي (145 هـ) عن أبي النضر. أما ابن لهيعة فقد أخطأ في متن الحديث لأنه لم يسمعه مباشرة من موسى بن عقبة، بل اعتمد على مخطوطة مكتوبة دون تدقيق (فقرأ "احتجر" كـ"احتجم").  

والخطأ في السند: موسى بن عقبة تلقى الحديث عن أبي النضر سالم، وأبو النضر عن بسر بن سعيد. لكن ابن لهيعة حذف أبا النضر من السند وقال: "سمع موسى من بسر مباشرة".  


[مسلم، التمييز، ص: 187-188]  

هنا نلاحظ أن الإمام مسلمًا قارن على مستويين:  

1. مقارنة رواية ابن لهيعة برواية وهيب (تلميذ آخر لموسى بن عقبة).  

2. مقارنة رواية موسى بن عقبة برواية تلاميذ أبي النضر الآخرين.  

فثبت أن ابن لهيعة أخطأ في السند والمتن.  

بهذا المنهج العلمي الدقيق، حفظ المحدثون سنة النبي صلى الله عليه وسلم:  

- جمعوا كل الأحاديث المسندة.  

- قارنوا الروايات عبر السلاسل المختلفة.  

- سجلوا أحكامهم على كل راوٍ وحديث في كتب الجرح والتعديل.  

إهمال هذا المنهج أو التشكيك في الأحاديث الصحيحة بعد هذا التحقيق الشاق هو جهل فادح. كما أن قبول كل ما يُنسب إلى الحديث دون تمحيص هو جهل أشد خطراً، لأنه:  

- يُهدر قروناً من جهد العلماء.  

- يُخالف منهج الصحابة في التحري.  

- يفتح الباب لتحريف الوحي.  

اللهم وفقنا لاتباع القرآن وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واحفظنا من تحريف الحديث بدعاوى العقل البشري. آمين!



কপিরাইট স্বত্ব © ২০২৫ আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট - সর্ব স্বত্ব সংরক্ষিত| Design & Developed By Biz IT BD