جُمُعَةُ الْوِدَاعِ و عِيدُ الْفِطْرِ
أمامنا عيد الفطر. لقد أمرنا الحديث الشريف "بصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". ولكن هذا لا يعني أن أي شخص يستطيع أن يعيّد بمجرد رؤيته للهلال في أي مكان شاء. بل العيد مشروط بقبول شهادته من قبل الدولة أو إثبات رؤية الهلال رسمياً. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ وَالْأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ»
"يوم الفطر هو اليوم الذي يفطر فيه الناس، ويوم الأضحى هو اليوم الذي يضحي فيه الناس." [رواه الترمذي في السنن 3/165، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح]
اَلنَّحْرُ يَوْمَ يَنْحَرُ الإِمَامُ وَالْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ الإِمَامُ
[رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "السُّنَنِ الْكُبْرَى" (٥/١٧٥)، وَالْهَيْثَمِيُّ فِي "مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ" (٣/١٩٠)، وَالْمُنْذِرِيُّ فِي "التَّرْغِيْبِ" (٢/٦٨) وَقَالَ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.]
لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُوافِقَ حُكُوْمَتَهُ وَأَكْثَرَ النَّاسِ فِيْ صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ. فَإِنْ رَأَى الْهِلَالَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْحُكُوْمَةُ شَهَادَتَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَحْدَهُ خِلَافًا لِلْجُمْهُوْرِ.
وَعِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ الدُّعَاءَ الَّذِيْ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:
اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ [وَالْيُمْنِ] وَالْإِيْمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيْقِ لِمَا تُحِبُّ رَبُّنَا وَتَرْضَى، رَبُّنَا [وَرَبُّكَ] اللَّهُ
[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "السُّنَنِ" (٥/٥٠٤، ح ٣٤٥١)، وَالْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" (٤/٣١٧)، وَالْهَيْثَمِيُّ فِي "مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ" (١٠/١٣٩). وَحَسَّنَهُ الْحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ.]
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيْ حُكْمِ صِيَامِ رَمَضَانَ:
مِنْ عِبَادَاتِ عِيدِ الْفِطْرِ الْهَامَّةِ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ (الْفِطْرَةِ). فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَهَا صَبَاحَ يَوْمِ الْعِيدِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَمِنَ السُّنَّةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ الِاغْتِسَالُ، وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ، وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ. وَمِنَ السُّنَّةِ أَيْضًا أَكْلُ شَيْءٍ قَبْلَ الذَّهَابِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ.
مِنْ سُنَنِ صَلَاةِ الْعِيدِ الْهَامَّةِ أَدَاؤُهَا فِي الْمُصَلَّى (الْعَرَاءِ). فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا دَائِمًا فِي الْمُصَلَّى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مَعَ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَجْلِ الْمَطَرِ. وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ مَسَاجِدُ كَثِيرَةٌ تُقَامُ فِيهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجِزْ إِقَامَتَهَا فِيهَا. وَفِي عَهْدِهِ وَعَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ، لَمْ يَكُنْ يُسْمَحُ بِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي الْمَدِينَةِ الْوَاحِدَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ إِقَامَتِهَا الْيَوْمَ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ، وَهَذَا الْأَمْرُ مُخَالِفٌ لِلرُّوحِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَمَكْرُوهٌ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ بِدُونِ عُذْرٍ مَكْرُوهٌ.
صَلَاةُ الْعِيدِ رَمْزٌ لِلْأُخُوَّةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَفِيهَا يَجْتَمِعُ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ فِي مُصَلَّى وَاحِدٍ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَيَتَقَابَلُ النَّاسُ وَيَتَبَادَلُونَ التَّحِيَّةَ وَالْمُوَاسَاةَ. وَهَذِهِ فُرْصَةٌ لِلِقَاءِ مَنْ لَا يَتَسَنَّى لِقَاؤُهُمْ طَوَالَ السَّنَةِ. فَيَشْعُرُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ بِالْفَرَحِ وَالنَّشَاطِ، وَيَكُونُ مَرْكَزُ هَذَا الْعِيدِ وَالْفَرَحِ هُوَ مُصَلَّى الْعِيدِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ. كَانَ هَذَا هُوَ الْحَالُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُصُورِ الذَّهَبِيَّةِ لِلْأُمَّةِ. وَلَكِنَّنَا نَفْقِدُ هَذَا الْمَعْنَى بِسَبَبِ تَأَثُّرِنَا بِالْعَقْلِيَّةِ الْأَنْانِيَّةِ لِلْحَضَارَةِ الْحَدِيثَةِ، حَيْثُ أَصْبَحْنَا نُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ كَأَيِّ صَلَاةٍ أُخْرَى. وَهَذَا أَمْرٌ مُحْزِنٌ جِدًّا!
وَمِنَ السُّنَّةِ الْمَشْيُ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ، وَالذَّهَابُ مِنْ طَرِيقٍ وَالْعَوْدَةُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، لِيَتَحَقَّقَ اللِّقَاءُ بَيْنَ النَّاسِ وَظُهُورُ الْمَسَاوَاةِ وَالْمَحَبَّةِ.
يُصَلَّى صَلَاةُ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ حُدُوثِ الْكُسُوفِ الْكُلِّيِّ لِلشَّمْسِ (بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ) حَتَّى قُبَيْلَ الزَّوَالِ. وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي عِيدَ الْفِطْرِ بَعْدَ مُرُورِ سَاعَةٍ وَ نِصْفٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِيدَ الْأَضْحَى بَعْدَ مُرُورِ سَاعَةٍ فَقَطْ.
وَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْعِيدِ أَوَّلَ مَا يَصِلُ إِلَى الْمُصَلَّى، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ النِّسَاءُ يَجْلِسْنَ فِي آخِرِ الْمُصَلَّى، فَكَانَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ الْعَامَّةِ يَذْهَبُ إِلَيْهِنَّ لِيُعْطِيَهُنَّ مَوْعِظَةً خَاصَّةً، ثُمَّ يَنْصَرِفُ مِنَ الْمُصَلَّى.
وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ تَشْجِيعُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَلْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ وَالْبَرَاءَةِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ لِلتَّمْرِينِ وَالتَّرْوِيحِ. وَلَكِنَّ الْيَوْمَ حَلَّتْ مَظَاهِرُ التَّكْسَلِ وَاللَّهْوِ مَحَلَّ الرِّيَاضَةِ النَّافِعَةِ. وَالأَخْطَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعُرْيَ وَالْفُحْشَ وَالْمُنْكَرَاتِ قَدْ غَزَتِ الْمُجْتَمَعَ بِحُجَّةِ التَّرْفِيهِ وَالرِّيَاضَةِ.
وَفِي أَيَّامِ الْعِيدِ نَرَى بَنَاتِنَا يَخْرُجْنَ شِبْهَ عَارِيَاتٍ يُعْرِضْنَ أَجْسَادَهُنَّ وَزِينَتَهُنَّ، فَقَدْ فَرَضَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتَتِرَ بِالْحِجَابِ الشَّرْعِيِّ. وَخُرُوجُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ حِجَابٍ -وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ يَلْعَنُ مَنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ- يُعَدُّ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَكُلُّ لَحْظَةٍ تَخْرُجُ فِيهَا كَذَلِكَ هِيَ لَحْظَةٌ فِي مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ النِّسَاءِ كُنَّ يَصُومْنَ رَمَضَانَ، وَآبَاؤُهُنَّ وَأُمَّهَاتُهُنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحِينَ! فَإِنْ كُنَّا نَخْشَى اللهَ وَنُرِيدُ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَحْفَظَ أَبْنَاءَنَا وَبَنَاتِنَا مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ.
نُوَدِّعُ رَمَضَانَ بِصَلَاةِ جُمُعَةِ الْوَدَاعِ، وَلَكِنْ كَيْفَ؟ أَبِخِيَانَةٍ أَمْ بِوَفَاءٍ؟ قَدْ أَتَانَا رَمَضَانُ بِهَدَايَا الْقُرْآنِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالتَّقْوَى، فَهَلْ نُوَدِّعُ هَذِهِ الْهَدَايَا مَعَهُ؟ إِذًا فَقَدْ خُنَّا رَمَضَانَ!
يَا أَحِبَّتِي، تَقَبَّلُوا هَدَايَا رَمَضَانَ بِحُبٍّ. لَا تَتْرُكُوا الْقُرْآنَ! كَمْ تَحَمَّلْتُمُ الْمَشَاقَّ فِي سَمَاعِهِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ طَوَالَ الشَّهْرِ. لَوْ كُنْتُمْ تَفْقَهُونَ مَا يُتْلَى لَكَانَتِ الْمَتْعَةُ وَالْقُنُوتُ وَالثَّوَابُ أَعْظَمَ، وَلَأَضَاءَتْ قُلُوبُكُمْ بِنُورِ الْقُرْآنِ.
فَلْنَنْوِي جَمِيعًا أَنْ نَقْرَأَ الْقُرْآنَ كَامِلًا مَعَ التَّفْسِيرِ قَبْلَ رَمَضَانَ الْقَادِمِ، حَتَّى نَفْهَمَ بَعْضَ مَا نَسْمَعُهُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ.
لَا تَتْرُكُوا الصِّيَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ الصَّوْمَ النَّفْلِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِكَسْبِ رِضَا اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَبَرَكَتِهِ وَالرُّوحَانِيَّةِ. وَقَدْ وَرَدَتْ فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ لِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (وَخُصُوصًا الْأَيَّامُ الْبِيضُ: ١٣، ١٤، ١٥)، وَصِيَامِ يَوْمَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْتِّسْعَةِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (وَخُصُوصًا يَوْمُ عَرَفَةَ)، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَعَ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ.
وَبَعْدَ رَمَضَانَ يَأْتِي شَوَّالٌ، فَنَحْنُ نُحَافِظُ عَلَى رُوحَانِيَّةِ رَمَضَانَ بِصِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ
[رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (٢/٨٢٢)]
لَا تَتْرُكُوا قِيَامَ اللَّيْلِ. فَإِنَّ فَضَائِلَ وَثَوَابَ قِيَامِ اللَّيْلِ - لَوْ جُمِعَتْ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ - لَصَارَتْ كِتَابًا ضَخْمًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ قِيَامَ آخِرِ اللَّيْلِ، فَصَلِّ عَلَى الْأَقَلِّ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا قَبْلَ النَّوْمِ.
وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الثُّلُثَ الْأَخِيرَ مِنَ اللَّيْلِ - أَوْ بَعْدَ مُرُورِ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ - يَبْدَأُ مِنْ حَوَالِي السَّاعَةِ ١٠ أَوْ ١١ لَيْلًا، وَهُوَ وَقْتُ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ. فَأَيًّا كَانَ يَوْمُكَ، فَلا تَنَامْ إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعٍ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَذِكْرٍ قَلِيلٍ، وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ، وَاسْتِغْفَارٍ لِذُنُوبِ يَوْمِكَ، وَإِخْبَارِ اللهِ بِكُلِّ مَا فِي قَلْبِكَ.
لَا تَتْرُكُوا التَّقْوَى بَعْدَ رَمَضَانَ. فَإِنَّهُ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ يَقِلَّ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَعُودُ مُتَعَمِّدًا إِلَى سَبِيلِ الْمَعَاصِي. فَذَلِكَ يُبْطِلُ كُلَّ مَا كَسَبَهُ فِي رَمَضَانَ. وَأَيُّ حَمَاقَةٍ أَعْظَمُ مِنْ إِضَاعَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكَلَّفَ فِيهَا الْمُؤْمِنُ كُلَّ هَذَا الْجُهْدِ؟
يَجِبُ عَلَيْنَا حِفْظُ أَعْمَالِنَا الْجَلِيلَةِ فِي رَمَضَانَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّقْوَى. وَهُنَاكَ أُمُورٌ تُحْبِطُ جَمِيعَ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِ، أَهَمُّهَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ. فَالشِّرْكُ هُوَ جَعْلُ شَرِيكٍ مَعَ اللهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ عِبَادَتِهِ. وَمِنَ الشِّرْكِ: الاعْتِقَادُ بِأَنَّ غَيْرَ اللهِ مِنْ أَنْبِيَاءَ أَوْ أَوْلِيَاءَ أَوْ مَلَائِكَةَ أَوْ جِنٍّ يَمْلِكُونَ قُدْرَةً خَارِقَةً، أَوْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، أَوْ يَقْدِرُونَ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ. وَكَذَلِكَ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللهِ، وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ أَوِ الْمَسَاعَدَةِ مِنَ الْغَيْبِ، أَوِ الْبَدْءُ بِالْأَعْمَالِ بِاسْمِ غَيْرِ اللهِ، أَوِ النَّذْرُ لِغَيْرِهِ.
وَكَمَا أَنَّ الشِّرْكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ، مِثْلُ: اعْتِقَادِ أَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ الدِّينِ لَا تَصْلُحُ، أَوِ اسْتِهْزَاءِ بِهَا، أَوِ اعْتِقَادِ جَوَازِ مُخَالَفَتِهَا. وَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَرْجُوَ الْمَغْفِرَةَ لِكُلِّ الذُّنُوبِ إِلَّا الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ، فَلَا مَغْفِرَةَ لَهُمَا. بَلْ يُحْبِطَانِ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ السَّابِقَةِ. فَإِنِ اعْتَقَدَ الإِنْسَانُ بِالشِّرْكِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، بَطَلَتْ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا.
فِي كُلِّ عَصْرٍ، يَقَعُ الشِّرْكُ بِسَبَبِ الْغُلُوِّ فِي النَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَعِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ. فَالْمُشْرِكُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ سَيَشْفَعُونَ لَدَى اللهِ وَيَكُونُونَ شُفَعَاءَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ سَيَشْفَعُونَ بِإِذْنِ اللهِ، وَلَكِنْ فَقَطْ لِمَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ. أَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا شَفِيعَ لَهُمْ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:
يَجُوزُ زِيَارَةُ الْمَقَابِرِ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى أَهْلِهَا وَالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَزِيَارَةُ الْعُلَمَاءِ لِلتَّعَلُّمِ، وَالذَّهَابُ إِلَى الْمُرْشِدِينَ لِلتَّزَكِّيَةِ. أَمَّا الطَّلَبُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَالِاسْتِغَاثَةُ فَهِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ. أَيْنَ تَذْهَبُونَ لِلدُّعَاءِ؟ فَاللهُ قَرِيبٌ مِنْكُمْ! لَمْ يَقُلْ أَبَدًا أَنَّ عَلَيْكُمُ الذَّهَابَ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ لِلدُّعَاءِ، بَلْ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ
[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي السُّنَنِ (٤/٦٦٧، ح ٢٥١٦)، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (٣/٦٢٣، ٦٢٤). وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ]
مِنْ أَكْبَرِ الْأُمُورِ الَّتِي تُبْطِلُ أَعْمَالَ رَمَضَانَ تَرْكُ الصَّلَاةِ. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَصُومُونَ رَمَضَانَ وَيُصَلُّونَ فِيهِ، ثُمَّ يَتْرُكُونَ الْفَرَائِضَ بَعْدَهُ! وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ كُفْرٌ. فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: تَرْكُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِعَمْدٍ كُفْرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، أَعْظَمُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا صَالِحًا بِدُونِ الصَّلَاةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ بِكَمَالِهَا مَعَ السُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ. فَإِنْ لَمْ نَسْتَطِعْ فَنُصَلِّيهَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ: بِالتَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ، وَبِالثِّيَابِ النَّجِسَةِ إِذَا لَمْ نَجِدِ الطَّاهِرَةَ، وَبِالْجُلُوسِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ إِذَا لَمْ نَسْتَطِعِ الْقِيَامَ، وَبِقِرَاءَةِ "سُبْحَانَ اللَّهِ" إِذَا لَمْ نَحْفَظِ الْقُرْآنَ. وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ بِحَالٍ مَا دَامَ الْعَقْلُ مَوْجُودًا.
الكتاب: خطبة الإسلام
الدكتور خندقر عبدالله جهانجير راه..