إيمان التوحيد - ٦
الدكتور خندكار عبد الله جاهنغير
أستاذ قسم الحديث، جامعة الإسلامية، كوشتيا
رئيس سابق لمؤسسة السنة
سبب اعتراض الكفار على عبادة الله وحده ومسائل أخرى
١. سبب اعتراض الكفار:
يتبادر إلى أذهاننا سؤال طبيعي، وهو: لماذا كان الكفار يرفضون بشدة عبادة الله وحده رغم إيمانهم بأن الله هو الخالق، الرازق، والقادر المطلق؟ ولماذا كانوا ينزعجون عند ذكر الله وحده؟
من خلال ما ورد في القرآن والسنة، يتبين أن الكفار كانوا يتخيلون الله كملوك الأرض من حيث التعامل مع العباد. كانوا يعتقدون أن الملائكة، والأنبياء، وبعض عباد الله الصالحين قد تقربوا إلى الله بعبادتهم، فوهبهم الله محبته ومكانته الخاصة، وبذلك منحهم مكانة وحقوقاً خاصة، جعلتهم - بزعمهم - أهلاً للألوهية، أي استحقاق العبادة والخضوع التام والخارق.
وكما يمنح الملك الأرضي بعض خدامه جزءاً من سلطانه، زعموا أن الله قد منح هؤلاء بعض القدرة على تدبير شؤون الكون. فمع أنهم لا يملكون شيئاً من عند أنفسهم، إلا أن الله - حسب زعمهم - لا يتدخل في أعمالهم، لأنه هو الذي أحبهم وجعلهم شركاء له في الألوهية والربوبية.
وقد عبّروا عن هذا الاعتقاد في تلبيتهم للحج، حيث كانوا يقولون:
«لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلاَّ شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ».
[رواه مسلم ٢/٨٤٣، والطبري في التفسير ١٣/٧٨-٧٩]
لذلك كانوا يعتقدون أن دعاء الله مباشرة وعبادته وحده يُعدّ إنكارًا لحقوق ومكانة هؤلاء المقربين، بل يُعدّ سوء أدب. وكانوا يظنون أن الوصول إلى الله لا يكون إلا عن طريقهم، كما أن الطلب من الملك الأرضي لا يتم إلا عن طريق المسؤولين المناسبين.
قال الله تعالى عن هذا الاعتقاد:
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾
[الزمر: ٣]
وكانوا يعتقدون أن لهؤلاء الأولياء مكانة خاصة عند الله، فيتوسطون لهم ويُقضى حاجتهم بسرعة، على عكس ما يحدث إن دعوا الله مباشرة.
قال الله تعالى:
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾
[يونس: ١٨]
ومن الملفت أن مزاعمهم هذه تخالف الفطرة والعقل. فطالما أن الله وحده هو الخالق والرازق والقادر، فلماذا يُظهر الإنسان خضوعه الكامل لغيره؟
وعلاوة على ذلك، فإن كل ادعاءاتهم مرتبطة بالله؛ كأن يقولوا إن الله منح فلانًا قدرةً، أو أن الله منح بعض الناس الألوهية أو الربوبية. فإذا قالوا إن الله يغضب إذا دُعي مباشرةً دون واسطة، فعليهم أن يثبتوا ذلك بوحي من الله.
ولهذا طلب منهم القرآن مرارًا أن يأتوا ببرهان من الكتاب. وطبعًا لم يستطيعوا ذلك، بل لم يأتوا إلا بتأويلات فاسدة لبعض مصطلحات الوحي. فقد ذكر الوحي محبة الله لعباده الصالحين، والشفاعة، والمعجزات والكرامات. لكن المشركين حرّفوا هذه المفاهيم ليُثبتوا بها شركهم.
تسلسل حججهم كان على النحو التالي:
١. إن الله يحب فلانًا أو علانًا.
٢. وبما أن الله يحبه، فلا شك أنه قد جعله شريكًا في الربوبية والألوهية، أو منحه بعض الصلاحيات لإدارة شؤون الكون.
٣. الدليل على هذه الصلاحيات هو ما يظهر على أيديهم من المعجزات والكرامات أو الأعمال الخارقة.
٤. وبما أنهم مُنحوا شيئًا من الربوبية والألوهية، فلا يمكن نيل القرب من الله مباشرةً دونهم.
٥. وبما أن لهم حق الشفاعة، فيجب عرض الحاجات عليهم.
٦. وإذا دُعي الله مباشرةً دونهم، أو ذُكرت عظمة الله دون ذكر عظمتهم، فهذا يُعد إساءة إليهم لا تُغتفر.
وبناءً على هذه الحجج، كانوا يُخوفون دعاة التوحيد. فكانوا يقولون: "هؤلاء المقربون من الله الذين نعبدهم، إن لم تتوقفوا عن ذمهم، فسوف يُصيبونكم بالضرر!"
أما تفكيرهم في تخويف دُعاة التوحيد، فكان كالتالي:
١. الدعوة إلى عبادة الله وحده تعني - حسب زعمهم - إهانة أحباب الله من الملائكة والأنبياء والأولياء وأبناء الله! فالقول بأنه لا يجوز دعاء غير الله، أو السجود لهم، أو النذر لهم، يُعتبر وقاحة بحق هؤلاء المقربين من الله!!
٢. ونتيجة لهذه الوقاحة، فإن هؤلاء الأحباب يُغضبون جدًا ويُعاقبون من أساء إليهم!! والله - حسب زعمهم - أعطاهم القدرة على معاقبة من يتجرأ عليهم!!!
وقد قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۖ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ۖ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
[الأنعام: ٨٠-٨١]
كل شيء داخل في علم ربي، أفلا تَتَذَكَّرُونَ؟ فكيف أخاف ما أشركتم به، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم يُنَزِّل به عليكم سلطانًا؟ فقولوا لي: أي الفريقين أحق بالأمن، إن كنتم تعلمون؟
[سورة الأنعام: ٨٠-٨١]
وقال الله عن رسوله ﷺ:
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ۖ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾
[سورة الزمر: ٣٦-٣٨]
انظر كيف يُقَدِّم القرآن الكريم الحُجَج المنطقية! فهؤلاء المشركون كانوا يُخَوِّفون رسول الله ﷺ ويقولون: إنك إن دعوت إلى عبادة الله وحده دون هؤلاء، فقد أسأتَ إليهم وسلبتَ حقوقهم! وإنهم سيغضبون ويُلحِقون بك الضرر!
ولكن السؤال الحقيقي:
إذا أراد الله بي خيرًا، فهل يستطيعون منعه؟ وإذا أراد الله بي شرًّا، فهل يستطيعون دفعه؟
والجواب من المشركين أنفسهم: لا، لا يستطيعون شيئًا!
فإذا كانوا عاجزين إلى هذا الحد، فما فائدة دعائهم من دون الله؟ أليس الله بكافٍ عبده؟ فدعوة الله وحده كافية!
ومن هنا نعلم أن الشرك الذي وقع فيه المشركون إنما هو مبني على أوهام باطلة، وتخيلات فاسدة، بأن الله لما أحب هؤلاء العباد، أعطاهم شيئًا من السلطة، وأن دعوة الله مباشرة دونهم تُعد إساءة إليهم!
وهذه كلها حجج باطلة لا أساس لها، وتحريف لبعض معاني الوحي.
١. قول الشاه ولي الله الدهلوي:
النص العربي:
قال الشاه ولي الله الدهلوي:
«إن كل نبي قد أوضح لأمته حقيقة الشرك إيضاحًا جليًّا. ثم لما توفي أحب أصحابه وحملة دينه، جاء من بعدهم جيل جديد، ضيعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فحرّفوا ألفاظ الوحي ذات المعاني المزدوجة إلى معانٍ باطلة.
وكذلك، فإن مسألتي المحبة من الله والشفاعة قد ذُكرت في كل شريعة لأناس مخصوصين، فحرّفوا أيضًا معناهما. ثم جعلوا الكرامات والكشف والإلهام دليلاً على القدرة والعلم الغيبي، وادعوا أن من ظهرت عليه تلك الأمور فهو صاحب قدرة وعلم غيبي.»
[الشاه ولي الله، حجة الله البالغة ١/١٨١-١٨٢]
٢. توحيد العبادة دعوة جميع الأنبياء والرسل
النص العربي:
كان توحيد العبادة هو الدعوة الأولى والأساسية لجميع الأنبياء والرسل على مر العصور. يقول الله عن أول رسول نوح عليه السلام:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩]
وانظر: هود: ٢٥–٢٦.
وعن هود عليه السلام:
﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٦٥]
وانظر: هود: ٤٩.
وعن صالح عليه السلام:
﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٧٣]
وانظر: هود: ٦١.
وعن شعيب عليه السلام:
﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٨٥]
وانظر: هود: ٨٤.
وجاء عن جميع الرسل:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]
وقال تعالى أيضًا:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾
٣. التوحيد هو محور القرآن
النص العربي:
التوحيد هو الموضوع الأساسي في القرآن ومحور جميع نقاشاته. يقول الملا علي القاري في شرح "الفقه الأكبر" للإمام أبي حنيفة، أثناء شرحه للتوحيد:
«إن الإقرار بتوحيد الألوهية يستلزم حتماً الإقرار بتوحيد الربوبية. ولكن لا يلزم من الإقرار بتوحيد الربوبية الإقرار بتوحيد الألوهية...
إن أكثر سور وآيات القرآن تتحدث عن نوعي التوحيد هذين. بل الحقيقة أن جميع مضامين القرآن من بدايته إلى نهايته تدور حول هذين النوعين من التوحيد:
ففي بعض المواضع يذكر الله ذاته، أسماؤه، صفاته، وأفعاله، وهذا هو توحيد العلم والخبر.
وفي مواضع أخرى يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ ما سواه، وهذا هو توحيد الإرادة والطلب (توحيد العبادة).
وفي مواضع أخرى توجد الأوامر والنواهي والطاعة، وهذه من متطلبات التوحيد ومكملاته.
وفي مواضع أخرى تذكر كرامة أهل التوحيد في الدنيا ومكانتهم في الآخرة، وهذا هو ثواب التوحيد.
وفي مواضع أخرى تذكر أحوال المشركين، والإذلال الذي تعرضوا له في الدنيا، والعذاب الذي ينتظرهم في الآخرة، وهذا هو جزاء الخروج عن التوحيد.
وعليه، فإن جميع موضوعات القرآن تتمحور حول التوحيد.»