إيمان التوحيد (٥)
الدكتور خوندكر عبد الله جهانجير
أستاذ، قسم الحديث، الجامعة الإسلامية، كوشتيا
رئيس سابق، مؤسسة السُّنَّة
توحيد العبادة هو محل اعتراض الكفار
السبب الثاني لإعطاء الأهمية لتوحيد العبادة هو أن هذا الجانب من التوحيد هو الذي يحدد الفرق بين المؤمن والكافر. عبر العصور، كان الخلاف الأساسي بين الإيمان والكفر يدور حول هذا الأمر.
معظم الناس يؤمنون بالتوحيد في المرحلة الأولى، أي توحيد الربوبية (أن الله هو الخالق والرازق). فكرة وجود أكثر من خالق لهذا الكون، أو عدم وجود خالق أصلاً، هي فكرة نادرة بين البشر. في كل العصور وفي كل البلدان، آمن غالبية الناس بأن لهذا الكون خالقاً واحداً ومدبراً.
لكنهم في مجال العبادة والدعاء كانوا يشركون معه الملائكة والأنبياء والصالحين والجن والأصنام والأحجار والأشجار والبشر والتماثيل والأماكن أو الأشياء التذكارية، يعبدونها أو يقدمون لها "الولاء". إذا نظرنا إلى أي مجتمع غير مسلم واقع في الشرك، سنلاحظ هذا الأمر بسهولة. كل الباحثين في المعتقدات الدينية للشعوب عبر التاريخ لاحظوا هذه الحقيقة.
القرآن والسنة بينا هذا الأمر بتفصيل. في القرآن نرى أن أمم الأنبياء لم تنكر أبداً أن الله هو الخالق والرازق، بل كانوا يعترفون بذلك، لكنهم كانوا يعتقدون أن للأصنام والأحجار والملائكة والجن قوى إلهية أو أنهم مقربون عند الله، لذا كانوا يعبدونهم إلى جانب الله، ويقدمون لهم النذور والذبائح والدعاء. دعاهم الأنبياء لترك عبادة هذه الأصنام والإخلاص لله وحده، فرفض الكفار.
من خلال وصف القرآن لكفار مكة نفهم هذا جيداً. كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية لكنهم أنكروا توحيد العبادة.
لم يكونوا يرفضون عبادة الله تماماً، لكنهم رفضوا عبادته وحده دون شريك. القرآن يذكر أن الكفار كانوا يدعون الله ويقدمون النذور والقرابين له، لكنهم كانوا يفعلون نفس الشيء لآلهتهم المزعومة.
قال تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا
(سورة الأنعام: ١٣٦)
من القرآن نعلم أن عبادة المشركين الرئيسية كانت "الدعاء"، أي التوسل والاستغاثة بغير الله. لذلك وصف القرآن شركهم في معظم المواضع بـ "الدعاء". ذُكر هذا في أكثر من ٧٠ موضعاً.
في القرآن نرى أن المشركين كانوا يدعون الله ويطلبون منه النصر والغوث، لكنهم رفضوا أن يُفردوه بالعبادة. مثلاً، لما دعاهم الرسول ﷺ لعبادة الله وحده، كانوا يقولون:
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(سورة الأنفال: ٣٢)
وفي غزوة بدر، وقف كفار مكة عند الكعبة يدعون الله: "اللهم انصر من هو أحق بالحق"، وكان أبو جهل يقول: "اللهم أهلك من كان أقطع للرحم".
قال الله رداً عليهم:
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ
(سورة الأنفال: ١٩)
كانوا يدعون الله في الشدائد، لكنهم في الأوقات العادية يدعون آلهتهم. قال تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ
(سورة الأنعام: ٤٠-٤١)
وقال:
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ
(سورة الإسراء: ٦٧)
لكنهم بعد النجاة يعودون للشرك:
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
(سورة العنكبوت: ٦٥)
كانوا يعبدون الله لكنهم يستكبرون عن إفراده بالعبادة:
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ
(سورة الصافات: ٣٥-٣٦)
وكانوا ينكرون فكرة توحيد العبادة:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
(سورة ص: ٥)
بل كانوا ينفرون من ذكر الله وحده:
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا
(سورة الإسراء: ٤٦)
ولهذا كانت عداوتهم الشديدة للإسلام والمسلمين، وكانت معارضتهم لرسول الله ﷺ بسبب هذا التوحيد.