شهر محرم: صحيح الحديث والحديث المزيف
(أ) شهر المحرّم في ضوء الأحاديث الصحيحة
شهر المحرّم هو أول شهر في التقويم الهجري، ومن خلال الأحاديث الصحيحة نتعرّف على فضائل هذا الشهر كما يلي:
(١) من الأشهر الحرم الأربعة: المحرّم، رجب، ذو القعدة، وذو الحجة. وهذه الأشهر لها مكانة خاصة في الشريعة الإسلامية، وقد نهى الإسلام عن القتال أو الشجار فيها. قال الله تعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ...}(سورة التوبة، الآية ٣٦)
(٢) في الحديث الصحيح، وُصِف شهر المحرّم بـ "شهر الله"، وقد ورد أنه أفضل صيام بعد رمضان. قال رسول الله ﷺ:
«أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم»(رواه مسلم، ٢/٨٢١)
(٣) لصيام يوم عاشوراء (اليوم العاشر من المحرّم) فضل عظيم، فقد قال رسول الله ﷺ:
«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضية»(رواه مسلم، ٢/٨١٩)
ثانيًا: بعد نحو نصف قرن من وفاة النبي ﷺ، استشهد حفيده الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء من سنة 61 هـ في كربلاء. وقد أثّر هذا الحدث في الأمة الإسلامية تأثيرًا دائمًا. فقام بعض الناس ضعيفي الإيمان ومن كلا الطرفين (أنصار الحسين وأعدائه) باختلاق أحاديث عديدة في فضل هذا اليوم. فبعضهم جعله يوم حزن، وبعضهم جعله يوم فرح ونصر. لكن اكتشاف هذه التزويرات كان سهلًا بفضل منهج المحدثين في التحقيق.
وسنذكر هنا بعض الأحاديث والآراء التي تقع ضمن القسم الأول.
١. رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ شَدِيدَةِ الضَّعْفِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَةَ آدَمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
٢. رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ مُعْتَمَدَةٍ أَنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ رَسَتْ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
٣. رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ ثَابِتَةٍ أَنَّ عِيسَى وُلِدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ.
(ج) الأكاذيب والخرافات المتعلقة بشهر المحرّم
بعض المحدثين حكموا على ما ذُكر أعلاه بأنه موضوع، بينما اعتبره آخرون ضعيفاً. وأما ما سيأتي ذكره، فقد اتفق جميع المحدثين على أنه موضوع بلا خلاف. ويمكننا تقسيم هذه الأكاذيب إلى ثلاثة أقسام:
الأحاديث الموضوعة في فضل صيام يوم عاشوراء أو شهر المحرّم.
الأحاديث الموضوعة في فضل صلوات مخصوصة ليوم أو ليلة عاشوراء أو لشهر المحرّم.
الأحاديث الموضوعة التي تدّعي وقوع حوادث عظيمة في يوم عاشوراء في الماضي أو أنها ستقع في المستقبل.
١. صيام محرّم أو عاشوراء
لقد ثبت في الحديث الصحيح أن صيام يوم عاشوراء يكفّر ذنوب السنة الماضية. ولكن الوضّاعين اختلقوا أحاديث أخرى كثيرة في هذا الشأن. نقتبس هنا من كتاب منتشر ما يلي:
«في الحديث: من صام في شهر محرّم، أعطاه الله تعالى عن كل يوم صامه ثواب ثلاثين يوماً.وفي حديث آخر: من صام يوم عاشوراء، أعطاه الله ثواب عشرة آلاف مَلَك، وعشرة آلاف شهيد، وعشرة آلاف حاج.وفي حديث آخر: من مسح برأس يتيم في يوم عاشوراء بمحبة ورحمة، أعطاه الله بكل شعرة على رأس اليتيم باباً من أبواب الجنة.ومن أطعم صائماً أو أفطره في مساء عاشوراء، نال ثواب من أطعم وفطر جميع أمة محمد ﷺ.وقال النبي ﷺ أيضاً: من صام يوم عاشوراء، فله أجر كصيام وصلاة ستين سنة.ومن عاد مريضاً في هذا اليوم، فكأنما عاد مرضى بني آدم جميعاً.وتُرفع الضيقة عن أهل بيته، وتُكفّر ذنوبه لأربعين سنة… (حديث)»
(المصدر: المَقْصُودُ لِلمُؤْمِنِينَ، ص ٤٣٠–٤٣١. وأيضاً: مفتی حبيب صمداني، "فضل بارہ چاند"، ص ١٣؛ الأستاذة كامرون نِسا دُلال، ص ٢٩٨–٣٠٠)
قولٌ مكذوب آخر:
«قال رسول الله ﷺ: من صام الأيام العشرة الأولى من شهر الله المحرّم، فكأنما صام نهار عشرة آلاف سنة، وقام لياليها. … ومن عبد الله في شهر المحرّم فكأنما نال فضل عبادة ليلة القدر. … أكرموا شهر الله المحرّم الذي يحبه الله تعالى. من يكرم شهر الله المحرّم، يكرمه الله في الجنة ويقيه من عذاب النار. … وكان صوم يوم العاشر من المحرّم مفروضاً على آدم عليه السلام والأنبياء من بعده. وفي هذا اليوم وُلد ألفا نبيّ، واستُجيبت دعوة ألفي نبيّ …»
(المصدر: مفتي حبيب صمداني، فضل بارہ چاند، ص ١٣)
وقد اتفق المحدثون أن هذه كلها أحاديث موضوعة وباطلة.
(انظر: ابن الجوزي، الموضوعات ٢/١١٢–١١٧؛ السيوطي، اللآلئ المصنوعة ٢/١٠٨–١٠٩؛ ابن عراق، تنزيه الشريعة ٢/١٤٩–١٥١؛ الملا علي القاري، الأسرار المرفوعة، ص ٢٩٤؛ الشوكاني، الفوائد المجموعة ١/١٢٩–١٣٠؛ عبد الحي اللكنوي، الآثار المرفوعة، ص ٩٤–٩٥)
٢. صلاة شهر المحرّم
لم يرد في أيّ حديث نبويّ صحيح أو ضعيف أيّ توجيه أو ترغيب لأداء صلاةٍ خاصّة في أيّ يوم أو ليلة من شهر المحرّم، ولا في يوم عاشوراء أو ليلته. فجميع ما ورد في هذا الباب من الروايات كلّه مختلقٌ ومكذوب.
وقد جاء في بعض الكتب المنتشرة في بلادنا أن من المستحب أداء ركعتين من الصلاة في اليوم الأول من شهر المحرّم، مع دعاء مخصوص وفضل مخصوص لذلك. وكل هذه الأقوال مختلقة ولا أصل لها في الشريعة.
(المصدر: مفتي حبيب صمداني، فضل بارہ چاند، ص ١١–١٢؛ الأستاذة كامرون نيسا دلال، نيك قانون، ص ٢٩٨)
٣. الصلاة الخاصّة في يوم أو ليلة عاشوراء
مع أنّ الأحاديث قد وردت بالترغيب في صيام يوم عاشوراء، إلا أنّه لم يرد في أيّ حديث نبويّ صحيحٍ أو ضعيفٍ تشريعٌ لصلاةٍ خاصّة تُؤدّى في يوم عاشوراء أو ليلته. ولكنّ الكذّابين اختلقوا أحاديث كثيرة في هذا الباب.
مثلاً، قالوا: من صلّى بين الظهر والعصر في يوم عاشوراء كذا وكذا ركعة، أو من صلّى في ليلة عاشوراء كذا وكذا ركعة وقرأ فيها سوراً مخصوصة بعددٍ مخصوص، فله من الأجر كذا وكذا...
وقد اختلق الكذّابون هذه الأحاديث لكسب قلوب المسلمين البسطاء، وقد خدعوا بها كثيراً من العلماء والصلحاء الذين لا يتثبّتون من الأحاديث.
(انظر: ابن الجوزي، الموضوعات ٢/٤٥–٤٦؛ السيوطي، اللآلئ المصنوعة ٢/٥٤؛ ابن عراق، تنزيه الشريعة ٢/٨٩؛ الشوكاني، الفوائد المجموعة ١/٧٣؛ عبد الحيّ اللكنوي، الآثار المرفوعة، ص ٩٠، ١١٠–١١١)
٤. قائمة مختلقة من الأحداث الماضية والمستقبلية في يوم عاشوراء
لقد افتَرَى الكذّابون على رسول الله ﷺ وقالوا:
بعض الناس افتَرَوا وقالوا: في الثاني من شهر المحرّم نُوح عليه السلام نَجا من الطوفان، وفي الثالث رُفِع إدريس عليه السلام إلى السماء، وفي الرابع أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار، وهكذا.
وقد أوردَ المُزَيِّفون هذه القصص الكثيرة في هذا الشهر أو في هذا اليوم، مدّعين وقوعها أو وقوع أحداث أخرى فيه. والواقع أنَّ الأمر الصحيح الوحيد الذي ثبت عن النبي ﷺ بالأحاديث الصحيحة في يوم عاشوراء هو نجاة موسى عليه السلام وقومه فقط. أمّا قبول توبة آدم عليه السلام، ووقوف سفينة نوح على جبل جودي، ومولد عيسى عليه السلام، فقد رُوِيَت هذه الأخبار بأسانيد غير موثوقة عن بعض الصحابة والتابعين.
كل ما يُقال عن عاشوراء أو المحرّم من هذا النوع هو كذب وباطل. والأمر المؤسف أنَّ كتب هذا الشهر وعاشوراء، والمناقشات والوعظ في مجتمعاتنا تذكر هذه الأقوال الضعيفة والموضوعة دون دليل.
((انظر: ابن الجوزي، المداولات ٢/١١٢–١١٧؛ ابن القيم، المنار، ص ٥٢؛ الذهبي، ميزان الاعتدال ٢/١٩٠؛ ابن حجر، لسان الميزان ٢/١٦٩؛ السيوطي، اللآلئ ٢/١٠٨–١٠٩؛ ابن عرق، التنزيه ٢/١٤٩؛ مولى كاري، الأسرار، ص ٣٠٠؛ عبد الحي لخنبي، الأسر، ص ٩٤–٩٧؛ الدراويش هوت، أسنل مطالب، ص ٢٧٧–٢٧٨؛ الأزلي، كشف الخفا ٢/٥٥٧.))
ومع ذلك، لا تزال هذه الخرافات من العصور السابقة قائمة بين كثير من المسلمين. وقد اختلق المزيفون كلاماً ملفقاً باسم الحديث لإثارة هذه الخرافات في المجتمع. ومن هذه الأكاذيب المزيفة: أن هذا الشهر هو شهر البلايا والمصائب، وأن في هذا الشهر نزلت آلاف البلايا… وأن آدم أكل من الشجرة في هذا الشهر، وأن هابيل قُتل فيه، وأن قوم نوح هلكوا فيه، وأن إبراهيم عليه السلام أُلقِيَ في النار فيه… وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحزن لقدوم هذا الشهر، وكان يفرح بزواله… وكان يقول: