আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট এ আপনাকে স্বাগতম

সাম্প্রতিক আপডেট

22/05/2025, 10:37:34 AM عربي

التطرف والعنف باسم الإسلام: نبوءة رسول الله ﷺ وموقف الصحابة

News Image

التطرف والعنف باسم الإسلام: نبوءة الرسول ﷺ ورؤية الصحابة
د. خُندُكار عبد الله جاهنغير
الأستاذ المساعد، قسم الحديث،
الجامعة الإسلامية، كُشتِيا

١. التطرف الديني والعنف

إن التطرف والعنف والإكراه باسم الدين نراها بشكل أكبر في تاريخ الديانتين اليهودية والمسيحية. فمنذ العصور القديمة لجأ المتدينون المتطرفون من اليهود إلى الإرهاب من أجل إقامة "المُثل الدينية". وكان من أشهر الأعمال الإرهابية في التاريخ القديم ما ارتكبه المتطرفون اليهود المعروفون بالـ "غيورين" (Zealots). في القرن الأول قبل الميلاد وما بعده، كان هؤلاء اليهود المتطرفون يعيشون تحت حكم الإمبراطورية الرومانية، وكانوا لا يقبلون بأي مساومة في سبيل الحفاظ على استقلالهم الديني والاجتماعي. وكانوا يقومون باغتيال كل يهودي يتعاون مع الدولة الرومانية أو يدعو إلى التعايش معها. ولهذا عُرفوا باسم "السيكاري" (Sicarii: رجال الخناجر). وكانوا يفضلون الانتحار على أن يُقبض عليهم من قبل الأعداء.
[الموسوعة البريطانية: مقال "Terrorism" ومقال "Zealot"]

وفي العصور الوسطى، ظهرت آلاف الحالات من الإرهاب بين المسيحيين لأسباب دينية وسياسية. وخاصة في فترة "الإصلاح الديني" و"الإصلاح المضاد" (Reformation and Counter-Reformation)، حيث شهدنا العديد من الحروب، بالإضافة إلى حالات إرهابية خارج سياق الحروب، بين الكاثوليك والبروتستانت.
[الموسوعة البريطانية: مقال "Terrorism & Ideology"]

وتحوي التوراة والإنجيل المنتشرة حالياً نصوصاً مليئة بالعنف والقتل الجماعي والدعوة إلى قتل المخالفين دينيًا أو مذهبيًا بأي وسيلة، حتى بالخداع والاغتيال. ولم يتردد اليهود والنصارى في تنفيذ هذه التعليمات متى سنحت لهم الفرصة. فالكراهية لغير الدين، وعدم التسامح، والإكراه على تغيير الدين، وقتل الآخرين وتعذيبهم أو حرقهم أحياءً كانت من السمات الأساسية للكهنة المسيحيين والكنيسة. فمنذ أن منح الإمبراطور الروماني قسطنطين (٣١٢–٣٣٧م) الديانة المسيحية مكانة رسمية، وحتى العصر الحديث، ظلت معظم فصول التاريخ المسيحي ملوّثة بالعنف الديني. وأظهر القساوسة والكنائس المسيحية دوماً "عدم تسامح مطلق" (Zero tolerance) تجاه أتباع الديانات الأخرى أو حتى المذاهب المختلفة داخل المسيحية. بل وحتى بعد ترسيخ "العلمانية" في أوروبا، استمرت محاولات تنصير الشعوب قسراً في المستعمرات الأوروبية. وتحت غطاء "نشر الإنجيل"، نشروا الكراهية تجاه الأديان الأخرى، وسعوا إلى القضاء على كل دين أو فكر مخالف باعتباره "زندقة" (heresy).
[د. خُندُكار عبد الله جاهنغير، الأديان وتمثيلها، دكا، جريدة The Independent، ٢٢/١١/٢٠٠٦، ص ٧]

أما في الإسلام، فقد حُرِّم بشدة إلحاق الأذى بالأنفس أو الأموال لتحقيق أي هدف سياسي أو اجتماعي أو ديني أو شخصي. ولهذا نجد أن حوادث التطرف والإرهاب في التاريخ الإسلامي قليلة جدًا. نعم، وقعت حروب في التاريخ الإسلامي، لكنها لا تُعد إرهابًا. ومن أنواع الحروب التي شهدها التاريخ الإسلامي: حروب بين الدولة الإسلامية والدول غير المسلمة، أو بين دولتين مسلمتين، أو بين الدولة الإسلامية والمتمردين. ولكن من النادر جداً أن نجد حوادث إرهابية أو أعمال عنف متطرفة تهدف إلى إقامة المبادئ الإسلامية أو تحقيق أهداف سياسية داخل المجتمعات المسلمة أو تجاه غير المسلمين. ومن بين القليل من هذه الحوادث، تبرز أنشطة الخوارج كمثال بارز.

٢. الفرقة الخوارج

٢.١. النشأة والتاريخ

أول حادثة تطرف وعنف في تاريخ الإسلام نراها في أنشطة فرقة الخوارج. في سنة ٣٥ هـ (٦٥٦ م)، استُشهد خليفة الدولة الإسلامية، عثمان بن عفان رضي الله عنه، على يد بعض المتمردين بطريقة شنيعة. ولم يكن في هؤلاء المتمردين من يطمح إلى الاستيلاء على الحكم أو أن يصبح خليفة. بل بدأوا يضغطون على الصحابة في المدينة عاصمة الدولة. وفي نهاية المطاف، تولّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة. فبايعه قادة الجيش والولاة المسلمون. إلا أن والي الشام، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، رفض مبايعة علي، وطالب أولاً بالقصاص من قتلة الخليفة عثمان.

وكان علي يرى أن البدء بمحاكمة القتلة قبل استعادة الاستقرار ووحدة المسلمين سيزيد من الفتنة، فدعا إلى التوحّد أولاً. تطور الأمر تدريجياً إلى حرب أهلية، ووقعت معركة صفين التي سقط فيها قتلى من الجانبين. ثم قرر الطرفان حل النزاع عن طريق التحكيم.

في هذه المرحلة، انفصل عن جيش علي رضي الله عنه عدة آلاف من أتباعه، عُرفوا لاحقاً باسم "الخوارج"، أي المنشقين أو المتمردين. وكان هؤلاء من الجيل الثاني من المسلمين الذين دخلوا الإسلام بعد وفاة رسول الله ﷺ، ومعظمهم كانوا من الشباب. كانوا معروفين بورعهم وزهدهم وعبادتهم، ويقضون ليلهم في قيام الليل ونهارهم في الذكر وقراءة القرآن، ولهذا كانوا يُعرفون باسم "القراء".

ادعوا أنه لا يجب اتباع إلا شريعة القرآن وأوامر الله وحدها، وأنه يجب قتال العصاة، مستشهدين بقوله تعالى:

﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾
[الحجرات: ٩]

فقالوا: إن الله أمر بقتال الباغية حتى ترجع إلى أمره، وجماعة معاوية باغية، فلا يجوز التوقف عن قتالهم حتى يستسلموا. ورأوا أن التحكيم من البشر بدعة غير شرعية.

كما استدلوا بقوله تعالى:
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾
[الأنعام: ٥٧، يوسف: ٤٠، ٦٧]

وقالوا إن تفويض البشر للحكم يخالف هذا النص القرآني.

وقال تعالى أيضًا:
﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾
[المائدة: ٤٤]

فادّعوا أن عليًا ومعاوية ومن معهما قد كفروا بعدم تحكيمهم لشرع الله، وأن عليهم التوبة، فإن رفضوا فإنهم يستحقون القتال.

كانوا يستشهدون بآيات مختلفة من القرآن الكريم لتأييد آرائهم، فحاول عبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة أن يبينوا لهم أن أقدر الناس على فهم القرآن والحديث هم الصحابة الذين عاشوا مع رسول الله ﷺ طيلة حياته، وأن الفهم الذي توصلوا إليه من القرآن والحديث غير صحيح، بل التفسير الصحيح هو ما جاء عن الصحابة. فترك بعضهم الغلو، بينما أصرّ الباقون على صحة رأيهم، واعتبروا الصحابة عملاء ومتساهلين ومتواطئين مع الظلم، واستمروا في الجهاد لإقامة الإسلام بمحاربتهم للصحابة.
📚 [السنن الكبرى للنسائي ٥/١٦٥-١٦٦؛ د. أحمد محمد جلي، دراسات عن الفرق، ص ٤٧-٤٨]

وبعد فشل نظام التحكيم في حل النزاع بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، ازدادت دعاويهم ودعاياتهم. صاروا يقنعون الشباب العاطفيين أن التساهل لا يمكن أن يحقق الحق، ولذلك يجب الاستمرار في الجهاد لإقامة الدين حسب توجيه القرآن. فارتفع عددهم من ثلاثة أو أربعة آلاف إلى حوالي خمسة وعشرين أو ثلاثين ألفاً خلال سنة واحدة فقط. ففي سنة ٣٧ هـ ترك جيش علي رضي الله عنه نحو ثلاثة أو أربعة آلاف فقط، بينما في معركة النهروان سنة ٣٨ هـ بلغ عدد جيش الخوارج خمسة وعشرين ألفاً تقريباً.
📚 [ابن كثير، البداية والنهاية ٥/٣٨٠-٤٣٠؛ معجم تاريخي، ص ٥٩]

وكان جهادهم لإقامة الإسلام مفعماً بالإخلاص. وشِعرهم في الأدب العربي يعدّ من أروع ما يمثل الحماسة الإسلامية وروح الجهاد.
📚 [المبرد، الكامل، مؤسسة الرسالة، ١٩٩٣]

وكانت عبادتهم وزهدهم عظيمة لا نظير لها. فقد كانت جباههم مملوءة بأثر السجود الطويل، وكان صوت تلاوة القرآن يسمع من معسكرهم.
📚 [ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص ٨٣-٨٤]

وكانوا إذا قرؤوا القرآن أو سمعوه يبكون من خشية الله وخوف الآخرة، حتى يُغشى عليهم من شدة التأثر.
📚 [الآجري، الشريعة، ص ٣٧]

ومع ذلك كانت وحشيتهم وإرهابهم رهيبة، فراح ضحية عنفهم آلاف المسلمين، كثير منهم كانوا أبرياء غير محاربين.

ومن سنة ٣٧ هـ وحتى عدة قرون لاحقة استمر إرهابهم وقتالهم. ففي الصراع بين عبد الله بن الزبير وحكام بني أمية في فترة ٦٤-٧٠ هـ، ساندوا عبد الله بن الزبير، ظناً منهم أنه يمثل الحكم الإسلامي الحق، ولكن عندما رفض تكفير عثمان وعلي رضي الله عنهما وأثنى عليهما، بدأوا في معارضته.

وفي سنتي ٩٩-١٠٠ هـ حاول الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أن يهديهم لطريق الحق بسبب ما رأى فيهم من تدين وإخلاص. وقد اعترفوا بعدله وصدقه واتباعه للإسلام، ولكنهم اشترطوا أن يعلن كفر عثمان وعلي رضي الله عنهما لأنهما -حسب زعمهم- خالفا حكم الله، كما طالبوه بتكفير معاوية وسائر خلفاء بني أمية، لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله.
📚 [د. أحمد محمد جلي، دراسات عن الفرق، ص ٥١-٦١]

وحين لم يقبل عمر بن عبد العزيز شروطهم، فشلت محاولة المصالحة رغم اعترافهم بعدالة خلافته، وأصروا على مواصلة القتال ضده.

مفهوم الخوارج وممارساتهم:

كان هؤلاء يحملون فكرة "الطهورية" حول الإسلام والمسلمين، فكانوا يعتقدون أن انتهاك أي حكم من أحكام الإسلام يؤدي إلى كفر المسلم. وبناءً على هذا، كانوا يشنّون الحرب ضد من يرونهم كفارًا من أجل "إقامة الإسلام" وتنفيذ الأحكام الإسلامية سياسيًا خارج إطار القيادة الشرعية، فكانوا يقاتلون جماعيًا. وباسم هذا الهدف العظيم (!) كانوا يرتكبون الاغتيالات السرية خارج ميدان القتال، كما كانوا يقتلون الرجال غير المحاربين، والنساء، والأطفال الذين لا يكفّرون عليًّا.

📚 أحمد بن حنبل (٢٤١هـ)، المسند (القاهرة، مؤسسة قرطبة ودار المعارف، ١٩٥٨) ٥/١١٠؛ ابن كثير، البداية ٥/٣٧٨–٣٩١؛ د. أحمد، دراسات عن الفرق، ص٥١–٦١.

موقف الصحابة من الفتنة:

يجدر بالذكر أن معظم الصحابة امتنعوا عن المشاركة في النزاع السياسي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. قال التابعي المشهور محمد بن سيرين (١١٠هـ): "عندما بدأت الفتنة، كان آلاف الصحابة أحياء، ولم يشارك فيها مئة منهم، بل كان عدد المشاركين أقل من ثلاثين صحابيًا."
📚 ابن كثير، البداية ٥/٣٥١.

كان أولئك الصحابة والتابعون الآخرون يؤيدون موقف علي رضي الله عنه أخلاقيًا، ولم يكونوا يعتبرونه مذنبًا أو مخالفًا لتعاليم الإسلام، لكن الخوارج كفّروهم أيضًا وقتلوهم.

جريمة الخوارج بحق عبد الله بن خباب:

خرج عبد الله بن خباب بن الأرت -ابن الصحابي خباب- مع زوجته وبعض أهله، فسأله الخوارج عن عثمان وعلي رضي الله عنهما، فتكلم بخير، فأخذوه إلى جانب النهر وذبحوه، ثم قتلوا زوجته الحامل وسائر النساء والأطفال في القافلة. ثم جلسوا للاستراحة، فسقطت تمرة من نخلة، فأخذ أحدهم التمرة ووضعها في فمه، فقال له آخر: "أكلتَ تمرة بغير حق!"، فبصقها. ثم رأى أحدهم خنزيرًا فضربه بسيفه، فاحتج عليه أصحابه وقالوا: "أفسدت في الأرض وأتلفت مال الغير!"، فبحثوا عن صاحب الخنزير غير المسلم وطلبوا منه العفو بعد أن أعطوه مالًا.
📚 ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص٨٤–٨٥.

النبوءة النبوية عن الخوارج:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:

"يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ".

📚 البخاري ٤/١٩٢٨، ٦/٢٥٤٠؛ مسلم ٢/٧٤٣.

رُوي هذا الحديث عن سبعة عشر صحابيًا في نحو خمسين إسنادًا مختلفًا. وتدل هذه الأحاديث على أن كثيرًا من الناس –رغم عباداتهم الظاهرة وإخلاصهم الظاهري– سيضلّون عن الإسلام بسبب تطرفهم. ورغم شمولية هذه الأحاديث، فقد أجمع العلماء أن أول مصداق لها هم الخوارج.
📚 ابن كثير، البداية ٥/٣٩٣–٤١١.

من هذه الأحاديث النبوية - التي تبلغ نحو خمسين حديثًا - نعلم بعضَ أسباب ضلال هؤلاء القوم وبعض صفاتهم. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: بعث علي رضي الله عنه من اليمن بذهب فيه تراب، فقسَّمه النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة من رؤساء العرب المسلمين الجدد، فقام رجل يُقال له ذو الخويصرة - وكان رقيق الخدين، مرتفع الجبهة، غائر العينين، محلوق الرأس - وقال:

يا رسول الله اتق الله، ما عدلت!
فقال: ويلك! أو لستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ من يطع الله إذا عصيت؟ ومن يعدل إذا لم أعدل؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنونني؟

ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟
قال: لا، لعله أن يكون يصلي.
فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أُومر أن أنقِّب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم.

ثم نظر إليه وهو مدبر وقال:
إنه يخرج من ضئضئ هذا قومٌ يقرؤون القرآن رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.
[البخاري: ٣/١٢١٩، ٤/١٥٨١، ٥/٢٢٨١، ٦/٢٥٤٠، ٢٧٠٢؛ مسلم: ٢/٧٤١-٧٤٤]

وقد ذكر المحدثون والمؤرخون أن ذا الخويصرة - واسمه حُرقوص - كان من شيوخ الخوارج.
[ابن كثير، البداية والنهاية: ٥/٤٠٥]

وقد تبيّن هنا السبب الأساسي في انحراف هذا الرجل وأتباعه، وهو أنهم اعتبروا فهمهم الشخصي للدين هو الفهم الصحيح المطلق، وكل من خالف هذا الفهم فهو ظالم أو منحرف. ففي هذه الحادثة، خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة العامة في توزيع المال العام، فلم يقسمه بين جميع المجاهدين أو بحسب الحاجة، بل أعطاه لأربعة فقط، لحكمة خاصة أو لوحي إلهي.

قد يتساءل المؤمن في نفسه عن السبب، لكنه يثق بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا بحق، أو يسأله بلطف عن السبب. أما أن يتهمه بالظلم أو يأمره باتقائه تعالى، فذلك لا يفعله إلا من زعم أن فهمه أسمى من وحي السماء!

لكن هذا الرجل اعتبر أن رأيه هو الحق المطلق، ولما ظن أن الرسول خالف تعاليم الإسلام، لم يتردد أن يأمره - بأدب ظاهر ولكن بجهل جسيم - أن يتقي الله ويعدل، وكأنه هو من أُرسل لهداية الخلق!

ذُكر هنا سِمة رئيسية من سمات الأعمال الإرهابية التي تُرتكب باسم الإسلام أو باسم إقامة الإسلام، وهي أن جميع هذه الأعمال الإرهابية تُوَجَّه في الأصل ضد المسلمين. فهم يقتلون المسلمين بتهمة الردة أو الكفر.

عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وعبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) وغيرهم من الصحابة، رُوي عن رسول الله ﷺ بأسانيد صحيحة أنه قال:

«يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

[رواه البخاري (1321/3، 1927/4)، ومسلم (746/2)، والترمذي (481/4)، والنسائي في الكبرى (161/5)]

وقد أشار هذا الحديث إلى سمتين من سمات هؤلاء الناس الذين ينتهجون الإرهاب باسم الإسلام أو باسم إقامة الحق والعدل:

  1. أولاً: أن غالبيتهم من الشباب، وإن وُجد فيهم من هو كبير في السن كـ «ذو الخويصرة»، إلا أن القيادة واتخاذ القرار بأيدي الشباب، وهم لا يُقدِّرون مكانة العلماء وكبار السن من أهل الخبرة والرأي.

  2. ثانيًا: أن عقولهم ناقصة وسلوكهم متهور. وقد ذكرنا سابقًا أن الإرهاب غالبًا ما يكون بهدف إحداث تغيير سياسي، ومن سماته التسرع وسوء التقدير. فقلة الخبرة، وغياب الحكمة، والاغترار بالرأي الشخصي كانت من الأسباب التي أخرجت هؤلاء الشباب المتدينين عن الإسلام رغم حرصهم على اتباعه.

بعد تمردهم، حاول علي (رضي الله عنه) إعادتهم إلى طاعة الدولة بالحوار والموعظة، ولكنهم استمروا في القتل والتخريب، فاضطر إلى قتالهم في معركة النهروان، حيث قُتل منهم جمع كثير. ولكن بقي من نجا منهم يسعون لتجميع قواهم من جديد، إلى أن قرروا اغتيال كبار الصحابة كعلي ومعاوية (رضي الله عنهما)، بحجة أنهم أفسدوا الأمة، فرأوا أن بقتلهم تزول الفتنة.

فأقدم عبد الرحمن بن ملجم على اغتيال علي (رضي الله عنه) في فجر يوم 21 رمضان سنة 40 هـ، وهو خارج إلى الصلاة، حيث ضربه بسيف مسموم. فلما قُطع يداه ورجلاه، لم يظهر الألم، بل كان فرحًا، ولكن حين أرادوا قطع لسانه اعترض بشدة، فسُئل عن السبب، فقال: «أُريد أن أُذكِّر الله حتى أُقتل على الذكر».
[المبرد، الكامل (1120/3)]

وقد مدحه شاعرهم عمران بن حطّان (ت 84 هـ) قائلاً:

"يا ضَربةً من تقيٍ ما أرادَ بها إلا ليبلغَ من ذي العرشِ رضوانا، إني لأذكره يومًا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا."
[المبرد، الكامل (1085/3)]

كان علي (رضي الله عنه) وسائر الصحابة يحنُّون لهؤلاء بسبب تقواهم وظاهر التزامهم، وحاولوا كثيرًا إعادتهم عن الغلو، ولكنهم أبوا إلا اتباع تأويلاتهم الخاصة للإسلام والقرآن.

سُئل علي (رضي الله عنه):
ـ أُكفّارٌ هم؟
فقال: «إنهم فروا من الكفر».
ـ قيل: أُمنافقون؟
قال: «المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله صباح مساء».
ـ قيل: فما هم إذًا؟
قال: «هم قوم أصابتهم فتنة العمى والصمم، فعبدوا رأيهم».
[ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث (149/2)]

٢.٣. أسباب الاضطراب ومظاهره
٢.٣.١. الكِبْر العلمي

عند دراسة أول حادثة إرهاب وتطرف في تاريخ الإسلام، نجد أن الكبر العلمي كان مصدر ضلالهم. لقد ذكر رسول الله ﷺ صفتين لأولئك الذين تورطوا في هذا التطرف والإرهاب: الشباب، وطيش التفكير أو عدم نضج العقل. ولذلك، كانوا يعتبرون فهمهم للإسلام ونهجهم في اتخاذ القرارات هو الفهم النهائي. كانوا يستخفون بآراء الصحابة الذين صحبوا رسول الله ﷺ طيلة حياتهم وكانوا أعلم بالدين، وكانوا يرون أن الأخذ بمشورتهم غير ضروري. وكانوا يحتقرون كل من يخالف فهمهم.

كما أنهم كانوا ينكرون أهمية السنة في فهم القرآن. لم يكونوا يرفضون الحديث مطلقاً، بل كانوا أحياناً يذهبون إلى الصحابة ليتعلموا منهم الحديث ويسألونهم عن مسائل مختلفة.
[مسلم، الصحيح ٣/١٤٤٤-١٤٤٦؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك ٢/٤٠٤، ٤٤٠، ٤٤٥، ٤/٦١٧؛ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري ٨/٣١٠، ٥٥٧، ٦٨٦].
لكنهم كانوا يرون أن القرآن وحده كافٍ كنظام للحياة الإسلامية. كانوا مواظبين على تلاوة القرآن وتدبره ليل نهار، لكنهم كانوا ينكرون أهمية أفعال النبي ﷺ وتفسيره الشخصي (أي السنة) لفهم القرآن. وكانوا يعتبرون أن المعنى الظاهر لآيات القرآن كما يفهمونه هو الفهم النهائي.
[ابن تيمية، مجموع الفتاوى ١٣/٤٨-٤٩، ١٩/٧٢].

وقد أدرك الصحابة منذ البداية أسباب ضلال هؤلاء، ولذلك كانوا يحاولون دحض انحرافهم من خلال السنة. فعندما أرسل علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس رضي الله عنه لمجادلتهم قال له:

اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة ... قال: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل. قال: صدقت، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه، نقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا.
[السيوطي، مفتاح الجنة، ص. ٥٩].

وفي هذا السياق، ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقعه لهذا الأمر، حيث قال:

سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل.
[الدارمي، السنن ١/٦٢؛ ابن حزم، الإحكام ٢/٢٥٧].

وقد أدّت هذه الانحرافات بهم إلى اتخاذ قرارات منحرفة، من أبرزها اعتبار أعمالهم الإرهابية جهاداً لإقامة الإسلام.

٢-٣-٢. تكفير المسلمين

مما سبق نرى أن أول أصل من أصول الخوارج في تمردهم ونشأتهم وتطورهم، كان تكفير عليٍّ ومن معه بسبب عدم الحكم بما أنزل الله في بعض المسائل، كما فهموه من ظاهر بعض آيات القرآن الكريم. فكان هذا هو الأصل الأول في فكر الخوارج. لقد ادعوا، بناءً على ظاهر بعض الآيات، أن المسلم إذا ارتكب معصيةً فقد كفر وخرج من دائرة الإيمان.

وعندهم أن اتباع أحكام الإسلام جزء لا يتجزأ من الإيمان؛ فمن خالف أيّ حكم من أحكام الإسلام فهو كافر أو فاقد للإيمان. فليس هناك منزلة بين الإيمان والكفر، ومن فقد كمال الإيمان فقد صار كافرًا.
[البغدادي، عبد القاهر بن طاهر (ت ٤٢٩هـ)، "الفرق بين الفرق"، دار المعرفة، ص ٧٢-٧٤؛
ابن أبي العز (ت ٧٩٢هـ)، "شرح العقيدة الطحاوية"، المكتب الإسلامي، الطبعة التاسعة، ١٩٨٨م، ص ٣١٦-٣٢٥؛
د. أحمد، "دراسات عن الفرق"، ص ٦٣-٦٥؛
د. ناصر العقل، "الخوارج"، دار الوطن، الطبعة الثانية، ١٤١٧هـ، ص ٢٠، ٤٢].

ومن الملاحظ أن هناك أمورًا كثيرة تعتبر معاصيَ واضحةً في ضوء القرآن والسنة، كالسَّرقة، والقطع، والزنا، والكذب، ونحوها. لكن الخوارج لم يقتصروا على اعتبار هذه المعاصي كفرًا، بل جعلوا الأعمال والمواقف السياسية المخالفة لرأيهم ــ من خلال تأويلٍ باطل ــ معاصي، ثم كفّروا أصحابها.

ففي الحقيقة، لم يكن أساس تكفيرهم هو المعصية، بل كان "الخلاف الأيديولوجي السياسي". فكل من لم يكن مؤمنًا بأيديولوجيتهم كان كافرًا في نظرهم.

فلم يكن عليٌّ ومن معه من الصحابة ومن عامة المسلمين ممن لم يقبلوا تكفيره، قد ارتكبوا ما يُعدّ معصيةً كبرى مثل السرقة، أو الزنا، أو ما شابهها من المحرمات. بل إن عليًّا (رضي الله عنه) حاول إيقاف سفك الدماء عبر التحكيم والسعي للصلح، وله في ذلك سند من الكتاب والسنة. بل إن بعض من لم يشاركوه في هذا الموقف قد أدركوا وجاهته ومشروعيته.

ومع ذلك، كفّرهم الخوارج اعتمادًا على تأويلاتهم الباطلة، ولم يكتفوا بذلك، بل قتلوهم ونهبوا أموالهم باسم الجهاد وإقامة الدين. والغريب أن بعضهم لم يكفّر بعض أهل المعاصي من بين صفوفهم.
[البغدادي، "الفرق"، ص ٧٢-٧٣؛
د. أحمد، "دراسات عن الفرق"، ص ٦٣-٨١].

٢.٣.٣. الادعاء بجواز قتل الكافر على وجه العموم

من المهم أن نلاحظ هنا أن الحكم على شخص بالكفر لا يعني جواز قتله. وكما سيتضح لنا من النقاش اللاحق، فإنه لا يجوز في الإسلام قتل أحد إلا الكافر المحارب. غير أن الخوارج لم يكتفوا بتكفير الصحابة والمسلمين العاديين، بل زعموا جواز قتلهم على وجه العموم. لقد اعتبروا بلاد المسلمين "دار كفر"، وأجازوا قتل ونهب سكان هذه البلاد جميعًا. ومع ذلك، فإنهم ركّزوا في القتل على المسلمين، بينما امتنعوا غالبًا عن قتل غير المسلمين من سكان تلك البلاد.
[ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ١٩/٧٣]

٢.٣.٤. الفهم الخاطئ للدولة والطاعة للدولة

من خلال الإسلام، وحّد رسول الله ﷺ القبائل العربية المتفرقة تحت نظام الدولة المركزية الحديث الأول في العالم. وكان العرب لا يفهمون مفهوم الطاعة للدولة، بل كانوا يفهمون الطاعة لشيخ القبيلة فقط. وكانوا يعيشون تحت سلطات قبلية صغيرة أو كبيرة. وكانوا يعتبرون الطاعة لغير شيخ القبيلة إهانة. كما أن شعورهم بالاستقلال والتميّز الذاتي كان يدفعهم إلى رفض أي قرار يخالف آرائهم.

أدخل النبي ﷺ هذه الأمة المتفرقة إلى أول نظام حكم مركزي، وأمرهم مرارًا بالبقاء تحت الطاعة للدولة. وقد قدّم توجيهات واضحة كثيرة بشأن الوحدة السياسية (الجماعة)، وطاعة الحاكم (الإمام أو الأمير)، والبيعة. واعتبر النبي ﷺ ترك طاعة الحاكم، والتمرد على الدولة، والعيش خارج نظام الدولة نوعًا من الجاهلية، ووصف من يموت في مثل هذه الحالة بأنه مات ميتة جاهلية. سواء أأُعجب الشخص بالحاكم أم لا، فعليه طاعته، ولا يجوز الخروج عليه في أي حال. وإذا وُجدت حاجة، فليكن الأمر بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بالتمرد أو الفتنة.

لكن الخوارج، بفهمهم الخاطئ للقرآن والإسلام خارج عن سنّة النبي ﷺ ومنهج الصحابة، سقطوا في فتنة كبرى. باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ارتكبوا التمرد وخانوا الدولة، ولم يفهموا الحاجة إلى النظام السياسي والطاعة للدولة. كانوا يقولون: "الحكم لله وحده"، وكان قصدهم أن لا يُقبل حكم إلا من الله فقط، وأن كل أحد ينفّذ ما يفهمه من حكم الله.

بهذا الشكل، في البداية لم يعترف الخوارج بأي أهمية للدولة أو الحاكم. وبعد أن نوقشوا حول أهمية الدولة، الإمام، والبيعة، قاموا بمبايعة أحد أفرادهم كـ "أمير". ثم استخدموا المصطلحات السياسية الشرعية داخل جماعتهم الخاصة. وهكذا، نشأت فيهم آراء ومذاهب متعددة حول الدولة.
[د. أحمد، دراسات عن الفرق، ص: ٦١–٦٣]

٢.٣.٥. اعتبار الجهاد ركنًا من أركان الإسلام وفرضًا شخصيًا

وردت أوامر الجهاد في القرآن والحديث في مواضع عديدة، وأُعلِن عن الجزاء العظيم للجهاد. إلى جانب القتال مع الكفار، أمر الله تعالى المسلمين والمسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الجميع. ومن جراء الارتباك في فهم نظام الدولة، لم يكن للخوارج فرق بين الفرضيات الدستورية (الدولة) والفرائض الشخصية. فقد نشروا - بناءً على أوامر القرآن في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان الإسلام وفرض شخصي على كل مسلم.

قالوا الخوارج: "المبدأ الثاني الذي نشأ من مثالية خوارجية عدوانية هو القتال أو الجهاد، الذي اعتبروه من المبادئ الأساسية أو الأركان في الإسلام. خلافًا للرأي التقليدي، فسّروا الأمر القرآني بـ 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر' على أنه إقامة الحق بالسيف". ... "وأضاف الخوارج إلى الأركان الخمسة ركنًا سادسًا وهو الجهاد".
[موسوعة بريتانيكا، مادة: الإسلام - الخوارج]

في الواقع، كانوا يعتبرون الجهاد أكبر ركن في الإسلام. ثم انخرطوا تحت اسم الجهاد في القتل والفتك المحرم في الإسلام. وكانت هذه أخطر وأقسى ضلالاتهم.

تكفير مسلم هو ضلالة عظيمة. وهي تمهد طريق الإرهاب. واعتقاد جواز قتل جميع الكفار - المحاربين وغير المحاربين - اعتقاد خطير يفتح باب الإرهاب على مصراعيه. وادعاء جواز الجهاد الفردي أو الجماعي، وقتل الكفار أو عقابهم، هو قمة خطوات الإرهاب.

سنبيّن في النقاش التالي أن الإسلام يمنع هذه الثلاثة بشكل قاطع: التكفير الجائر للمسلمين، القتل بدون حكم قضائي، وادعاء الجهاد الفردي أو الجماعي خارج إطار الدولة. وقد أمر الإسلام بأن يكون القتال والحكم منضبطين تحت سلطة الدولة، لكي لا يتخذ أحد شخصيًا قرار العقاب أو القتل بناءً على رأيه الخاص. وأعلن الإسلام حرمة النفس والمال والكرامة لجميع الناس مهما كانت أعراقهم وأديانهم، ليمنعوا على الأقل الضرر من دوافع الغضب أو العواطف. لكي يكون الخوف من العقاب في الآخرة رادعًا للجرائم.

السؤال هنا: كيف انخرط هؤلاء الناس العاطفيون الصادقون في مثل هذه الأعمال باسم الإسلام؟ ربما نكون قد فهمنا أن السبب الرئيسي هو نقص المعرفة الصحيحة عن الإسلام. ولهذا نرى أنه بينما كان الصحابة الذين تربوا في صحبة النبي ﷺ يعترفون بأهمية تأسيس الدين والجهاد، ويدركون فظاعة القتل ويفرون من الغلو، فإن هؤلاء الناس العاطفيين بسبب نقص المعرفة، انخرطوا بقلوب مفتوحة في القتل، وإراقة الدماء، وتدمير الأموال، واغتصاب حقوق العباد، وغيرها من الجرائم العظيمة باسم الجهاد.

٢.٤. جهود الصحابة في دحض شبهات الخوارج

٢.٤.١. التغيير والجهاد والتطرف

سبق وأن ذكرنا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة حاولوا أمام الخوارج توضيح ضلالاتهم. بعضهم هدأ بعد هذه المحاولات، لكن كثيرين رفضوا ترك غلوهم. والسبب الأساسي كان تكبرهم في فهم القرآن. لم يكن الخوارج يعتقدون أن للصحابة، الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفسيراً أو رأياً مميزاً في فهم القرآن. لقد رأينا أن هذا التفكير كان مصدر كل ضلالاتهم.

في الواقع، التطبيق الحقيقي للقرآن هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، أي السنة. وفقط من خلال السنة يمكن فهم المعنى الحقيقي للقرآن. خلال ما يقرب من قرن من الزمن، حاول الصحابة بجهودهم منع جنون الخوارج مستندين إلى السنة. ومن خلال الأحاديث التي جمعها كتب الحديث المشهورة، نرى أن الصحابة كانوا يحاولون تصحيح ضلالات الخوارج التي تركزت على الجهاد. لقد رأينا أن الآيات المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والقتال فهمها الخوارج على أنها أركان الدين أو فرائض ذات أولوية. وهكذا وقعوا في ضلالات متعددة.

أولاً، خالفوا السنة في تحديد أهمية العبادة. استدلوا بآيات وأحاديث تثبت أهمية الأمر والنهي والتغيير والجهاد وإقامة الدين وإزالة الفتنة، لكنها لا تثبت أبداً أن هذا العمل هو أعظم أو أهم فرض. الحقيقة هي أن هناك الكثير من الفرائض على المسلم، وكلها مهمة. قد يكون بعضها أهم من بعض لأسباب عامة أو ظروف شخصية. في كل الأحوال، لا يجب تقدير الأهمية بالعاطفة أو المنطق فقط، بل بفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليماته، وسيرته. الصحابة حاولوا إصلاح هذا الخطأ مستندين إلى السنة.

ثانيًا: التركيز على الفرض الكفائي أو إصلاح الآخرين أكثر من الفرض القانوني والواجبات الشخصية
لم يمنع علي رضي الله عنه أو أي صحابي آخر أو الحاكم أو العلماء اللاحقون أحدًا من التمسك بالرأي الشخصي أو أداء العبادات والعبودية أو الحياة الشخصية أو الأسرية وفقًا لرأي شخصي. ولم يمنعهم أحد من الاعتراض على ظلم الدولة أو الحاكم أو الناس، أو إصدار الأوامر والنواهي. ورغم وجود خلافات نظرية، لم تُمنع أفعالهم. [التبري، محمد بن جرير (310هـ) التاريخ (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1407هـ) 3/114] لكنهم لم يكتفوا بذلك. كان هدفهم الوحيد هو "تطبيق وإقامة دين الله في حياة الآخرين". ولهذا الغرض، كانوا يغرقون في المعاصي وهم يصلحون الحكام والإداريين والناس من الجرائم الحقيقية أو المخالفة المتصورة، ويقضون على الفتن ويقيمون الدين. وكان تفكيرهم أن عدم إقامة الدين في حياة الآخرين يجعل أداءي للدين بلا قيمة. حاول الصحابة تصحيح هذا الاضطراب في ضوء السنة النبوية. أورد هنا بعض الأمثلة:

(1) قال تابعي نافع، جاءه شخص (زعيم الخوارج نافع بن الأعصرق) وقال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَحُجَّ عَامًا وَتَعْتَمِرَ عَامًا وَتَتْرُكَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغَّبَ اللَّهُ فِيهِ
فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: إِيمَانٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالصَّلاةِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ.
فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ أَلا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)
(قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
فَقَالَ: فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الإِسْلامُ قَلِيلًا فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إِمَّا قَتَلُوهُ وَإِمَّا يُعَذِّبُونَهُ حَتَّى كَثُرَ الإِسْلامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ.

من كلام ابن عمر نفهم عدة نقاط:
أولاً، لا يمكن تحديد أهمية العبادة فقط بناءً على الآيات والأحاديث التي تدعو أو توجه أو تحث، بل يجب تحديد ذلك في ضوء تعاليم القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل شامل.

ثانيًا: في القرآن الكريم تم ذكر أوامر كثيرة للعبادات مثل الصلاة، الصيام، الزكاة، الجهاد، الدعوة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها. ولكن لم يُفصل أيها أهم وأيها أقل أهمية، وأيها فردي وأيها اجتماعي، وأيها يجب الالتزام به دائمًا وأيها خاص بأوقات معينة. هذه التفاصيل تُعرف من خلال التطبيق العملي لمن تلقى هذه الأوامر ومن خلال كلامه وسيرته.

ومن خلال التطبيق العملي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العملية والعملية طوال حياته، يتضح أن أهم هذه الأوامر التي في القرآن هي هذه الخمسة التي هي أساس الدين. لا شك أن الجهاد، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الدين لها أهمية عظيمة، ولكن فيها تيسير وفرصة بناءً على ظروف الفرد، وهذا لا يوجد في أركان الإسلام. فقد كانوا يعلمون أن الجهاد ليس عبادة فردية واجبة مثل أركان الإسلام التي من تركها يكون آثمًا، بل في أحاديث كثيرة ذُكر أن من أقام أركان الإسلام فقط فهو مسلم كامل ومن أهل الجنة. [البخاري، الصحيح 1/25، 27، 2/506، 951، 4/1793؛ مسلم، الصحيح 1/39-44.] وفي أحاديث أخرى مع ذكر فضل الجهاد، ورد ذكر مدح المؤمن الذي أقام أركان الإسلام ولم يجاهد. [مسلم، الصحيح 3/1503.] كما أُجيز ترك الجهاد، والأمر، والنهي، والدعوة في أوقات الفتن والاضطرابات. [الحاكم، المستدرك 4/315؛ ابن حبان، الصحيح 2/108؛ الترمذي 5/257؛ أبو داود، السنن 4/124؛ داني، السنن الوارِدات 2/363-370؛ المنجري، الترغيب والترهيب 3/295-299؛ ابن رجب، جامع العلوم والحكم 323-324.] وأُمر ترك الجهاد في خدمة الوالدين أو لأسباب خاصة. [البخاري، الصحيح 3/1094، 5/2228؛ مسلم، الصحيح 4/1975؛ المنجري، الترغيب والترهيب 3/215-218.]

وفي الواقع، اعتبار إقامة الدين في الدولة أو المجتمع مثل إقامته في حياة الفرد، أو أهم منها، هو سبب للتطرف والإرهاب. هذا التطرف يقود إلى ضلالات مثل تكفير المسلمين الآخرين أو الدولة بسبب فشلهم في إزالة الذنوب، وكراهية الناس، والإكراه في الإصلاح، وإهمال العبادات الفردية كالتطوع والتهجد والذكر والبكاء.

الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي والدولي. الإسلام نظام حياة شامل للفرد والمجتمع والدولة والعالم. لكن هناك فرق طبيعي بين الفرد والمجتمع والدولة في الإسلام. الإسلام يتيح فسحة واسعة لكل الناس في جميع المجتمعات، سواء مع أو بدون نظام دولة. يمكن للمسلم أن يؤدي دينه في أي مجتمع أو دولة مع اختلاف أهلها. النظام السياسي هو جزء من الإسلام، لكن الإسلام ليس اسماً للنظام فقط. المسلم يحقق إسلامه الكامل بأداء الأركان والفرائض والنوافل، ويبذل جهدًا ليطبق الإسلام في نفسه وأسرته ومجتمعه ودولته. وإذا خُرِق النظام الإسلامي في أي من هذه المستويات، يحاول المسلم الإصلاح بالدعوة والإنكار بالأمر والنهي بالحكمة، وليس بتجاوز الحدود. ولو لم تُفلح هذه الجهود فلا يجب أن يظن المسلم أن ذنوبه تزيد بسبب أخطاء المجتمع أو الدولة. قال تعالى:

يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم

“يا أيها الذين آمنوا، عليكم أنفسكم، فإذا اهتديتم فلا يضركم من ضل.” [سورة المائدة: 105]

لذا، إلحاق الضرر بالناس في حياتهم أو أموالهم أو كرامتهم بدافع الإصلاح، أو الوقوع في المعاصي الأخرى، هو من أشد أنواع الضلال.

ابن عمر رضي الله عنه كان يشارك في الجهاد النظامي للدولة الإسلامية ضد دولة الكفر. ومع ذلك، فإن للجهاد شروطًا كثيرة، ومن أهمها أن الجهاد يكون فقط ضد الكفار المحاربين. وقد جُعل قتال الثائرين المسلمين من قبل حاكم الدولة الإسلامية جائزًا، لكن ابن عمر رضي الله عنه ومعظم الصحابة فضلوا الابتعاد في هذه الحالة، لأن ترك الجهاد الصحيح أفضل من قتل مسلم في جهاد خاطئ.

ثالثًا، كانوا يرون أن تأمين دين المسلم هو الأساس في إزالة الفتن وإقامة دين الله. ما دام المسلم يتمتع بأمان أداء الدين، فلا يجوز خوض الحرب بذريعة إزالة الفتنة، بل يجب محاولة حل المشكلة بالدعوة، الأمر، النهي، وغيرها.

(2) من الصحابة الذين حاولوا إرشاد الخوارج كان جندب ابن عبد الله (60 هـ). مرة دعا بعض قادة الخوارج الذين كانوا دائمًا منشغلين بتلاوة القرآن وممارسته، وقال لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من شاق شق الله عليه يوم القيامة... ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة بملء كف من دم أهراقه (كانما يذبح دجاجة كلما تقدم لباب من أبواب الجنة حال بينه وبينه) فليفعل

"من اتبع طريق الغلو، سيتبع الله عليه يوم القيامة. ومن استطاع أن يحمي نفسه من إراقة الدماء حتى لو كانت بيد مليئة بدم، كمن يذبح دجاجة كلما تقدم نحو باب من أبواب الجنة، فليفعل."

سمع الحاضرون هذا فبكوا بكاءً شديدًا، فقال جندب رضي الله عنه: لو كانوا صادقين لنجوا... لكنهم عادوا إلى طريق الغلو مرة أخرى. [البخاري، صحيح 6/2615؛ ابن حجر، فتح الباري 13/129-130]

هنا جندب رضي الله عنه لفت نظرهم إلى أمرين:

أولًا، خطورة الغلو. للغلو جانبان: الجانب الأول هو التمسك الصارم بسنن التطوع والسنن في العبادة الشخصية إلى درجة المشقة الشديدة. الجانب الثاني هو اعتبار تصحيح أخطاء الآخرين عبئًا شخصيًا، واللجوء إلى الغلو في ذلك. كلا الأمرين مخالف للسنة ويصعبان على المؤمن أداء دينه.

ثانيًا، يوضح لهم جندب رضي الله عنه مدى فظاعة القتل تحت شعار الجهاد، مقارنةً بغيره من العبادات مثل الصلاة والصيام والذكر. فإن الخطأ في هذه العبادات لا يجعل العبد في معصية كبيرة، أما الجهاد فهو عبادة تتعلق بحقوق العباد. والمبدأ الإسلامي أن خطأ القاضي في معاقبة بريء أقل سوءًا من أن يفلت المذنب. [الترمذي، السنن 4/33؛ الحاكم، المستدرك 4/426؛ الشوكاني، نيل الأوطار 7/271-272؛ الإمام الأميدي، الإحكام 2/130، 4/65]

كذلك، من الأفضل عدم القتال بدلاً من قتل الناس ظلماً باسم الجهاد. من يقتل الناس ظلماً باسم الجهاد، ولو فعل مئات الحسنات، يُمنع من دخول الجنة. أما من لم يجاهد طوال حياته، فلا احتمال له لهذا النوع من العقاب. ولا يوجد في القرآن أو السنة ما يدل على أن ترك الجهاد لعدم توفر شروطه، رغم معرفة أهميته، يعد ذنباً.

ومن الجدير بالملاحظة هنا أن بعضهم بعد أن جاءهم العلم والشعور، لم يستطيعوا ترك الغلو. وربما لأنهم لم يكونوا جميعاً صادقين ومخلصين. كما أن بعضهم كان هدفه من هذه الأعمال الإرهابية الحصول على القيادة والسلطة والمال والمصالح الدنيوية الأخرى. أو أن جنون الغلو ودعاية رفاقهم أعادهم إلى الضلالة.

(٣) بعد وفاة معاوية (رضي الله عنه) في سنة 60 هـ، تولى ابنه يزيد الخلافة. وقبل معظم مناطق العالم الإسلامي بخلافته، لكن معظم أهل مكة والمدينة والكوفة كانوا ضد خلافته. فرفض عبد الله بن الزبير خلافة يزيد، وادعى هو الخلافة بنفسه. وبعد وفاة يزيد في سنة 64 هـ، بايع الناس عبد الله بن الزبير في مكة خليفة. أما في الشام فقد أعلنوا معاوية بن يزيد خليفة. واعتبر معظم المسلمين عبد الله بن الزبير خليفة لهم، وقد استقر حكمه في معظم الأمصار عدا بعض مناطق الشام. واستمر الصراع، وفي سنة 73 هـ هزم عبد الله بن الزبير وقُتل على يد جيش الأموي عبد الملك.

خلال هذه السنوات العشر من الصراع، اعتبر معظم المسلمين الصالحين حكم عبد الله بن الزبير حكمًا إسلاميًا وعدلًا، واعتبروا يزيد وآله معارضين للحكم الإسلامي. لكن الصحابة الأحياء في ذلك الوقت ابتعدوا عن الاشتراك المباشر في القتال، لأن من يدعي الإسلام لا يجوز إلحاق الضرر بحياته أو ماله أو كرامته، فقد حرمه الإسلام بشكل صارم. ومن خلال الأحاديث النبوية يتبين أنهم كانوا يرون أن من ينخرط في القتال سيُحكم عليه بناءً على أهدافه وأعماله سواء كانت صالحة أو سيئة. وليس من الضروري الانخراط في الصراعات السياسية باسم إقامة الإسلام، ولكن النجاة من الحرام ضرورية. أما الخوارج ومن هم على شاكلتهم فقد ظنوا أن إقامة الإسلام تحصل فقط في وسط القتال، ولذلك قتل بعض الناس باسم إقامة الإسلام ليس بمشكلة، خصوصًا من يُعتبرون معرقلي طريق الإسلام.

في سنة 73 هـ، حينما حاصر الحجاج بن يوسف مكة وشن هجومًا مدمرًا على عبد الله بن الزبير، جاء شخصان إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقالا:

إِنَّ النَّاسَ ضُيِّعُوا، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ
فَقَالَ يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي
فَقَالا أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
فَقَالَ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ

قال عبد الله بن عمر: الناس ضُيِّعوا، وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرّم دم أخي. قالا: ألم يقل الله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

[البخاري، صحيح البخاري 4/1641؛ ابن حجر، فتح الباري 8/184، 310]

هنا يوضح عبد الله بن عمر رضي الله عنه أولًا مقارنة بين أمر الجهاد وتحريم القتل. أصل الإسلام أن ترك النهي مقدم على الأمر بالعمل. [البخاري، الصحيح ٦/٢٦٥٨؛ مسلم، الصحيح ٤/١٨٣٠]. خصوصًا في هذه الحالة، العمل المحرم ذكر في القرآن والسنة مرات عديدة كأعظم الكبائر. أما الجهاد فقد أمر به مرات عديدة مع شروط كثيرة، ولم يُذكر أبدًا كفرض عيني، وأُعطي الإذن بتركه. لذلك لا يجوز للمؤمن أن يرتكب أعظم الحرام من أجل أداء فرض قابل للتنازل.

ثانيًا، أشار إلى الفرق بين "جهاد القتال" و"الفتنة" أو الإرهاب. قال إن الصحابة القتالوا لدرء الفتنة، وأما الخوارج فقاتلوا لنشر الفتنة. ولم يذكر سبب الفرق بينهما. لكن من النقاش التالي سنرى أن الفارق الأساسي في الإسلام بين الجهاد والفتنة هو أن الجهاد يكون بحرب منظمة بإدارة الدولة وبأمر من الحاكم، أما الفتنة والإرهاب فيكونان على يد أفراد أو جماعات خارج الدولة. وفقًا للقرآن والسنة، يكون جهاد القتال تحت قيادة الحاكم الشرعي، وأما الخوارج فقد جعلوه فرديًا وجماعياً وأدى إلى الإرهاب. في الواقع، إذا لم يكن القتل والحكم واستعمال القوة تحت سيطرة الدولة، فإن ذلك يكشف عن باب الفتنة الكبرى. كل إنسان يرى آخر خاطئًا أو مجرمًا حسب وجهة نظره، فإذا سمح لكل فرد أو جماعة أن تحكم وتحارب وتستخدم القوة حسب رأيهم، فلا شيء أعظم من ذلك فتنة.

(٤) قال التابعي صفوان بن محرز إن الصحابي جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، في زمن الفتن، جمع بعض المهتمين بهذه النزاعات، ونبههم إلى عاقبة قتل أي مؤمن يردد "لا إله إلا الله" مدعيًا الإيمان. قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل جيشًا ضد الكفار، وكان في المعركة جندي كافر شجاع قتل العديد من المسلمين، وعندما هاجمه أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال الجندي الكافر "لا إله إلا الله"، فقتله أسامة على الفور. لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بقلق: لماذا قتلتّه وهو يقول "لا إله إلا الله"؟ قال أسامة: لقد تسبب في أذى للمسلمين وقتل فلانًا وفلانًا، وعندما حملت السيف قالها خوفًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم تفتح قلبه لترى هل قالها خوفًا أم بإرادته؟ وماذا ستفعل يوم القيامة عندما تكون هذه الكلمة حاضرة؟ كرر ذلك مرات عديدة.[مسلم، الصحيح ١/٩٦-٩٧؛ شرح صحيح مسلم، ٢/١٠١؛ ابن حجر، فتح الباري ١٢/١٩٦، ٢٠١]

أيضًا نبه جندب رضي الله عنه إلى خطورة قتل من يدعي الإيمان ويدعو بـ"لا إله إلا الله".

(٥) روى أسامة بن زيد رضي الله عنه هذه الحادثة محاولًا توضيح الأمر للشباب العاطفيين. قال:

حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ سَعْدٌ وَأَنَا وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ قَالَ قَالَ رَجُلٌ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) فَقَالَ سَعْدٌ قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.

عندما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يأسف بهذا الشكل مرارًا، تمنيت أنني لم أكن مسلمًا في ذلك اليوم بل مسلمًا جديدًا. فقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ما دمت لم تقتل مسلمًا، فلن أقتل مسلمًا. فقال رجل: ألم يقل الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ)؟ قال سعد: لقد قاتلنا حتى زال الفتنة، وأنت وأصحابك تريدون القتال لإحداث الفتنة.[مسلم، الصحيح ١/٩٦-٩٧؛ شرح صحيح مسلم، ٢/٩٩-١٠٤]

٢. ٤. ٢. وصف المسلم بالكفر

من خلال النقاشات السابقة مع الخوارج والصحابة، نرى أنهم كانوا يعتقدون اعتقادًا راسخًا أن المؤمن لا يفقد أخوته بسبب اختلاف في الرأي أو الذنب أو المعصية. لذلك يجب اعتبار من قال "لا إله إلا الله" مؤمنًا. لديهم العديد من الأقوال والتعليمات في هذا الشأن. بناءً على قوله تعالى: "فمن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وغيرها من الآيات والأحاديث، عندما بدأ الخوارج يعلنون المسلم كافرًا بسبب الذنب، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لهم:

إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون كفر دون كفر

"هنا الكفر ليس كما تفهمونه، هذا النوع من الكفر لا يخرج المسلم من الإسلام. (فمن لم يحكم بما أنزل الله) هنا كفر داخل الكفر."

[الحاكم، المستدرك ٢/٣٤٢. البيهقي، أحمد بن الحسين (٤٥٨ هـ)، السنن الكبرى (مكة المكرمة، مكتبة دار الباز، ١٩٩٤) ٨/٢٠.]

في الواقع، استندوا في هذا الرأي إلى آيات قرآنية مختلفة وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم طوال حياته. إذا قيل في بعض الآيات أو بعض الأحاديث أن العاصي كافر، فإن آيات أخرى من القرآن وتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم تدحض هذا، وكذلك معاملته مع المعاصين من المسلمين. وبناءً على مناقشات الصحابة وأرائهم، سنناقش هذا المعتقد الخطير للخوارج.

٢.٤.٢.١. وصف المسلم بالكفر بسبب المعاصي:

شجَّع الإسلام الإنسان على حياة كاملة من الصدق والبراءة من المعاصي، لكنه لم يشترط الخلو التام من المعاصي ليُعتبر مسلمًا. لقد رأينا أن الحكم بعدم الالتزام بما أنزل الله قد وُصف في القرآن بالكفر. كما أن كثيرًا من المعاصي وُصفت في القرآن والسنة بالكفر. بناءً على ذلك، ادعى الخوارج أن التورط في أي معصية مخالفة لحكم الله يعني الحكم خارج شريعة الله، ولذلك كل معصٍ كافر.

هذا الرأي ليس إلا تحريفًا للقرآن والسنة. فكما وُصفت معاصي كثيرة في القرآن بالكفر، وُصف العاصي المؤمن أيضًا بأنه مؤمن. لقد رأينا أن من لا يحكم بما أنزل الله يوصف بالكفر، وأحد أحكام الله أن لا يقتل مؤمن مؤمنًا، ولا يقاتل بعضهم بعضًا. قال تعالى مرارًا:

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ

"ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"
[سورة الأنعام: ١٥١، الإسراء: ٣٣، الفرقان: ٦٨]

وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال بين المؤمنين بأنه كفر فقال:

سباب المسلم فسوق وقتاله كفر

"سبُّ المسلم فسوق، وقتاله كفر"
[البخاري، صحيح ١/٢٧، ٥/٢٢٤٧، ٦/٢٥٩٢؛ مسلم، صحيح ١/٨١]

ولكننا نرى في القرآن الكريم أن من خالف حكم الله وقاتل مؤمنًا، مع أنه في حديث واضح الكفر، وُصف بالمؤمن في القرآن. في الآيات المذكورة، وُصف المتقاتلون بالمؤمنين، وبيّن الله أنهم إخوان بعضهم بعضًا.

وقد ورد في أحاديث كثيرة وصف المعاصي للمؤمنين. وبهذه الآيات والأحاديث، كان الصحابة الذين تربوا في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن كلمة "الكفر" و"النفاق" و"الظلم" في القرآن الكريم تُستخدم بمعنيين: أحيانًا بمعنى الكفر الجازم وغياب الإيمان والظلم الكبير، وأحيانًا بمعنى معاصي كفران النعم، وصفات المنافقين، والمعاصي العامة.

الْمُبَالَغَةُ فِي نَقْدِ النَّاسِ وَوَصْفُ جَمِيعِ النَّاسِ بِالْخَطَايَا وَالْكُفْرِ وَالْهَلَاكِ نَاتِجٌ عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْمَنَامِيَّةِ نَهْيًا شَدِيدًا. قَالَ:

إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكه

"مَنْ قَالَ إِنَّ النَّاسَ هَلَكُوا، فَقَدْ هَلَكَ هُوَ أَهْلُهُ."
[رواه مسلم، الصحيح ٤/٢٠٢٤]

وَسَبُّ الْمُؤْمِنِ بِالْكُفْرِ هُوَ أَوَّلُ خُطْوَةٍ فِي التَّخْرِيبِ وَالتَّفْسِيدِ. وَحَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُمْ أَنْ يَكُونُوا حَذِرِينَ جِدًّا فِي ذَلِكَ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه

"إِذَا كَفَرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَ عَلَيْهِ."
[رواه البخاري، الصحيح ٥/٢٢٦٣-٢٢٦٤؛ مسلم، الصحيح ١/٧٩]

وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما

"مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا."
[رواه البخاري، الصحيح ٥/٢٢٦٤]

وقال أبو ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه

"مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ."
[رواه مسلم، الصحيح ١/٧٩]

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ما أكفر رجل رجلا إلا باء أحدهما بها إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره

"مَا أَكْفَرَ رَجُلٌ رَجُلًا إِلَّا بَاءَ أَحَدُهُمَا بِهَا، إِنْ كَانَ كَافِرًا، وَإِلَّا كَفَرَ بِتَكْفِيرِهِ."
[رواه ابن حبان، الصحيح ١/٤٨٣]

وقال ثابت بن الدهّاك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله

"مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالْكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ."
[رواه البخاري، الصحيح ٥/٢٢٤٧، ٢٢٦٤]

وَذَكَرَ أَحَادِيثَ أُخْرَى عَنْ أَصْحَابٍ آخَرِينَ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى. وَوُجُودُ أَحَادِيثِ صَحِيحَةٍ عَنْ ثَمَنِىَةِ إِلَى عَشَرَةِ أَصْحَابٍ فِي ذَلِكَ يُثْبِتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَذِّرُ صَحَابَتَهُ كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

بِاسْتِنَادِ إِلَى تِلْكَ التَّوْجِيهَاتِ فِي القُرْآنِ وَالحَدِيثِ وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَعَانِي هَذِهِ الأَحْكَامِ بِالشَّكْلِ الشَّامِلِ وَالتَّنْسِيقِ بَيْنَهَا، قَامَ الصَّحَابَةُ وَتَلَاهُمُ الأَجْيَالُ الْمُسْلِمُونَ الْأَصْلِيُّونَ بِاتِّخَاذِ حَذَرٍ شَدِيدٍ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُدَّعِي الإِيمَانَ. وَكَانَتْ مَبْدَأُهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْذَرُ جِدًّا فِي إِيمَانِهِ، وَيَحْتَفِظُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ وَعَدَمِ الطَّاعَةِ وَكُلِّ مَا يُخَالِفُ القِيَمَ الإِسْلَامِيَّةَ، وَلَكِنَّهُ فِي قَبُولِ إِيمَانِ غَيْرِهِ يَرْجِعُ إِلَى الظَّاهِرِ وَلاَ يُكَفِّرُ أَحَدًا مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلإِيمَانِ إِلاَّ بِيَقِينٍ وَتَحَفُّظٍ كَبِيرٍ. وَمِنَ الْخَيْرِ وَالأَمْنِ أَنْ يَخْطِئَ فِي ظَنِّهِ بِالْمُشْرِكِ أَوِ الْمُنَافِقِ مُسْلِمًا عَلَى أَنْ يَخْطِئَ فِي ظَنِّهِ بِالْمُؤْمِنِ كَافِرًا، فَالْخَطَأُ فِي الأَوَّلِ لاَ يُوجِبُ إِثْمًا أَوْ ضَرَرًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَيُوجِبُ إِثْمًا عَظِيمًا وَضَرَرًا فِي الإِيْمَانِ.

وَعَلَى هَذَا الْمَبْدَإِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لاَ يُحَقُّ تَكْفِيرُ مَنْ يَدَّعِي الإِسْلَامَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَلَا يَجِبُ تَكْفِيرُهُ إِلَّا إِذَا أَظْهَرَ بَيِّنَةً عَلىَ مُعَادَاةِ الإِسْلَامِ وَكُفْرِهِ. وَيُحْسَبُ الْمُسْلِمُ الْمُذْنِبُ مُمْنِعًا مِنَ الإِسْلَامِ لِمُخَالَفَتِهِ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ وَعِصْيَانِهِ لأَمْرِ اللّهِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ لِمُجَرَّدِ الذَّنْبِ. وَإِنْ ظَنَّ الْمُذْنِبُ بَحُقُّ ذُنُوبِهِ وَعَتَبَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْ أَهْمَلَهَا، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُصْبِحُ مُسْلِمًا وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِبَعْضِ أَحْكَامِ الإِسْلَامِ، فَذَلِكَ يَكُونُ كُفْرًا وَرِدَّةً.

وَيَفْتَرِضُونَ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الإِيمَانَ لَا يُكْفِرُ عَمْدًا، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ كُفْرًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ إِسْلَامِيٌّ يُبْرِئُهُ مِنْ الْكُفْرِ، يُؤْمَنُ عَلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ مُؤْمِنًا. وَإِذَا اشْتَرَكَ فِي عَمَلٍ كُفْرِيٍّ أَوْ شِرْكِيٍّ، فَقَبْلَ أَنْ يُكْفَّرَ شَخْصِيًّا، يَنْبَغِي التَّأَكُّدُ مِنْ وُجُودِ عُذْرٍ لَدَيْهِ مِنْ جَهْلٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَيُقْبَلُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ مَبْدَأُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَكَانَ إِيمَانُ الصَّحَابَةِ بِهَذَا الْمَبْدَإِ قَوِيًّا حَتَّى لَمْ يُكْفِّرُوا الْخَوَارِجَةَ، وَالْخَوَارِجُ هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ ضِدَّهُمْ، وَخَاضَ الصَّحَابَةُ الْحُرُوبَ ضِدَّهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُصْدِرُوا فَتْوَى بِتَكْفِيرِهِمْ، وَعَاشُوا مَعَهُمْ كَمُسْلِمِينَ، وَتَحَادَثُوا مَعَهُمْ، وَصَلَّوْا تَحْتَ إِمَامَتِهِمْ، وَلَمْ يَأْذَنُوا بِقَتْلِهِمْ إِلَّا فِي مَيْدَانِ الْقِتَالِ وَالْقَضَاءِ.

[المصادر: أبو حنيفة النعمان بن ثابت، الفقه الأكبر مع شرح الملا كرّي، بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٩٨٤، ص ١١٧؛ أبو جعفر التَهَاوِي أحمد بن محمد، العقيدة التهَاوِيّة مع شرح ابن أبي العز الحنفي، بيروت: المکتب الإسلامي، الطبعة التاسعة، ١٩٨٨، ص ٣١٦؛ الترمذي، السنن ٤/١٢٥؛ أبو داود، السنن ٣/٧٤، ١٤٦؛ ابن حبان، الصحيح ١١/١٥٥؛ ابن حجر، فتح الباري ٨/٣١٠، ٥٥٧، ٦٨٦؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى ٧/٢١٧-٢١٨؛ د. ناصر العقل، الخوارج، ص ٤٧-٥٦.]

٢.٤.٢.٢. التكفير لأسباب سياسية

لقد ذكرنا سابقًا أن الهدف الأساسي من تكفير الخوارج والباطنيين كان سياسيًا. فقد كانوا يقبلون أحيانًا أفراد جماعتهم الذين ارتكبوا ذنوبًا واضحة بنصوص القرآن والسنة مؤمنين، بينما كانوا يكفرون خصومهم السياسيين بزعم ارتكابهم ذنوبًا متوهمة أو مخالفة لقانون الله. وقد رأينا أنهم كفروا عليًّا رضي الله عنه وأتباعه بزعم ذنوب وهمية. كما كفروا سائر حكام الأمويين باستثناء عمر بن عبد العزيز، لأنهم تخلفوا عن حكم الله في اختيار الحاكم بأخذ رأي الناس والشورى، وبدلاً من ذلك أقاموا الملكية الوراثية، وتركوا أحكام الله في العدل والمساواة، وابتدعوا قوانين وضوابط من صنع البشر. ومع أنهم اعترفوا بعمر بن عبد العزيز كحاكم عادل ونزيه يطبق شرع الله، إلا أنهم استمروا في القتال ضده لأنه رفض تكفير الحكام السابقين.[د. أحمد، دراسات في الفرق، ص. ٦٠، ٦٣]

في هذا السياق، اتبع الصحابة وتابعوهم من التابعين والعلماء اللاحقين نفس المبدأ السابق. يقولون: إن الحكم بعدم اتباع ما أنزله الله في القرآن يُعتبر كفرًا، ولكن هناك في مواضع أخرى من القرآن من يُحكم على من يخالف أحكام الله بأنه مؤمن. لذلك، إذا اعتبر شخص ما تطبيق الأحكام الإسلامية غير ضروري أو اعتبر الشريعة الإسلامية ملغاة أو غير نافذة، فإنه يُعتبر كافرًا بلا شك. أما إذا كان يعلم أن شرع الله صحيح لكنه يصدر أحكامًا معادية للإسلام بدافع طمع دنيوي أو مصلحة أو خوف، فإن ذلك لا يُعتبر كفرًا بل ذنبًا.[ترمذي، السنن ٥/٢١؛ حكيم، المستدرك ٢/٣٤٢؛ الطبري، جامع البيان ٦/٢٥٦؛ القرطبي، الجامع ٦/١٩٠؛ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ٢/٦٢-٦٥؛ ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية ص. ٣٢٣-٣٢٤]

مثلاً: في الإسلام تحريم الخمر، وشرع حد الجلد لمن شربه. إذا اعتبر أحدهم الخمر حلالًا أو حكم بعقوبة شرب الخمر بأنها قديمة أو غير إنسانية، فإنه يُعتبر كافرًا. أما إذا كان القاضي يؤمن بحرمة الخمر ويعتقد أن العقوبة صحيحة، لكنه لم يطبق الحكم بسبب الولاء للفريق أو الجيش، أو ضغط الحاكم أو مصلحة دنيوية أو تحيز، فإنه يُعتبر مذنبًا ومنكرًا لنعم الله، لكنه ليس كافرًا. خصوصًا إذا كان يدعي الإيمان، فحين يخالف "حكم الله" أو "يصدر حكمًا خارج حكم الله" يجب الأخذ بالاحتمال الثاني حتى يثبت كفره ببيان صريح. ولهذا السبب لم يعتبر الصحابة الحكام الأمويين كفّارًا، بل صلّوا خلفهم واستمروا في معاملاتهم الإسلامية معهم. ولهذا السبب رغم أن عمر بن عبد العزيز وصفهم بأنهم فاسقون وظالمون، لكنه رفض تكفيرهم.

٢.٤.٣. الفرد مقابل الدولة

إن أشدّ الضلالات التي وقع فيها الخوارج حين رفضوا سنة النبي ﷺ العملية، وأقواله، وآراء الصحابة، وقصدوا قبول القرآن فقط، هي عدم إدراك أهمية النظام الدولة. ونتيجة لذلك، وقعوا في ثلاث ضلالات:

أولاً: عدم التمييز بين الفرائض الدينية الخاصة بالفرد والفرائض الدينية الخاصة بالدولة. فاعتبروا القضاء والجهاد عبادات فردية، ومن ثم انخرطوا في القتل والنهب والإرهاب تحت مسمى الجهاد الفردي أو الجماعي.

ثانياً: عدم التفريق بين الاعتراض أو التغيير على الظلم وبين القضاء والعقاب. فاستولوا على مسؤولية القضاء والعقاب بأنفسهم تحت مسمى الاعتراض أو التغيير على الظلم الحقيقي أو المزعوم، وانخرطوا في الخيانة الوطنية والانعزال الاجتماعي.

ثالثاً: عدم التمييز بين طاعة الدولة وطاعة العاصي ودعم معصيته. فاعتبروا الطاعة العامة للمواطن للدولة طاعة للعاصي ودعمًا للمعصية، وادعوا أن كل مسلم عادي هو كافر بسبب هذا الإثم. ومع ذلك، ومن منطلق السنة، فإن الأولى عبادة شرعية يوصي بها الإسلام، والثانية معصية وظلم.

2.4.3.1 الالتزام الشخصي مقابل التزام الدولة

حاول الصحابة أن يشرحوا لهم ذلك بطرق مختلفة. عندما أنكروا مسؤوليات وحقوق الدولة أو الحاكم بناءً على قول القرآن "ولا تحكموا إلا بالله" بمعنى "لا حكم إلا لله"، اعترض علي رضي الله عنه على ذلك قائلاً:
"هم يطبقون كلمة صحيحة بمعنى خاطئ، يقولون 'لا حكم إلا لله' لكنهم يفهمونها على أن لا حكم لأي إنسان، لكن الإنسان يحتاج إلى حاكم سواء كان صالحاً أو فاسقاً. تحت حكمه يعمل المؤمن ويستفيد الكافر من حقوقه المدنية، وهكذا يتم ملء الوقت الذي حدده الله، ويقاتل هذا الحاكم العدو، ويؤمن أمن الناس، ويأخذ حقوق الأقوياء والضعفاء. في هذه الطريقة ينعم الصالحون بالسلام ويُقمع المجرمون."
[ابن أبي الحديد، عبد الحميد (٥٨٦هـ)، شرح نهج البلاغة، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الثانية، ١٩٦٧م، ٢/٢١]

في هذا أيضًا، وفقًا للسنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم، بيّن علي رضي الله عنه أهمية الدولة ورئيس الدولة في تنفيذ حكم الله. فهناك العديد من الأوامر الإسلامية التي يلتزم بها كل مؤمن فرديًا، وهناك أوامر أخرى تنفذها الدولة، ومن أهمها القضاء، الحكم، تأمين أمن المواطنين، وقيادة الحرب ضد الأعداء. القضاء، الحكم، والحرب ليست عبادات يمكن أن يؤديها المسلم الفردي بمفرده.

في القرآن الكريم أمر بالجهاد والقتال ضد الكفار في عدة مواضع، وأذن بقتل المشركين والكفار في أماكن متعددة. بناءً على ذلك استنتج الخوارج أن القتل مباح لكل كافر. وكان هذا فهمهم الخاطئ للقُرآن بدون الاعتماد على تطبيق السنة أو الجمع بين الآيات. إذ يجب فهم أوامر القرآن معًا وتطبيقها مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن القرآن يأمر أحيانًا بقتل الكفار والمشركين، وأحيانًا يأمر بالقتال فقط ضد المحاربين منهم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الإمام جنة يُقاتل من ورائه"
[البخاري، الصحيح ٣/١٠٨٠؛ مسلم، الصحيح ٣/١٤٧١]

وفي حديث آخر:
"الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل."
أي أن الجهاد واجب حتى مع الحاكم الظالم أو الحاكم العادل، فظلمه وعدله لا يُبطلان فرض الجهاد.
[أبو داود، السنن ٣/١٨]

وأما قتل المدنيين من غير المحاربين فقد حرّمه النبي صلى الله عليه وسلم بشدة. قال عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة:
"من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً."
[البخاري، الصحيح ٣/١١٥٥، ٦/٢٥٣٣؛ مسلم، الصحيح ٤/٢٢٧٨]

كان الصحابة يفهمون آيات القرآن في ضوء السنة الكاملة. لذلك لم يقتلوا أحدًا من غير المحاربين في ساحات القتال. وقد رأينا في الأحاديث المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الخوارج، وقال: "من وجدهم فليقتلهم". ومع ذلك لم يفهم الصحابة أن القتل يجب أن يكون بمجرد لقاء الخوارج، ولم يقتلوا أي قائد معروف من الخوارج إلا في ساحة القتال.
[د. ناصر العقل، الخوارج، ص. ٤٧-٥٧]

2.4.6.2. تغيير الظلم مقابل محاكمة الظلم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر واجب على المؤمن، ولكن لم يُسمح له أبداً بالقصاص بنفسه أو أخذ القانون بيده. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ.

"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان."

من هذا الحديث نفهم أن على كل مؤمن مسؤولية تغيير المنكر إذا رأى ذلك حسب استطاعته وظروفه. مثل شرب الخمر من المنكرات، إذا رأى شخص آخر يشرب الخمر، فيجب عليه أن يغيره إذا استطاع بيده، فإن لم يستطع فبالقول، وإن لم يستطع فبقلبه، أي أن يكره ذلك في قلبه أو يخطط لتغييره. لكن لا يجوز للمؤمن أن يحاكم أو يعاقب بنفسه مرتكب المنكر. إن اقتضى الأمر عليه أن يسلمه إلى القانون أو يسعى لتطبيق العقوبات الشرعية.

من يرى شخصاً متورطاً في جريمة لا يجوز له أن يعاقبه بنفسه إلا إذا قُدم إلى القاضي وأُعطي الحق في الدفاع والمحاكمة. حتى الحاكم أو القاضي الأعلى لا يحق له أن يعاقب أحداً من تلقاء نفسه. قال عمر رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "إذا رأيت رجلاً زانياً أو سارقا، فما حكمك في قضائه؟" فقال عبد الرحمن: "شهادتي كشهادة المسلم العادي". فقال عمر: "أحسنت".

أي أن الحاكم لا يمكنه أن يأخذ القضاء بيده، وشهادته ليست أكثر من شهادة مسلم عادي. ولا يصح حكم القاضي بشهادة شاهد واحد أو أقل من اثنين أو أربعة حسب القانون.

وفي حادثة أخرى، رأى عمر رضي الله عنه في الليل رجلاً يرتكب الزنا، فسأل الصحابة في الصباح هل يستطيع الحاكم أن يعاقب أحداً لو رأى ذلك؟ فأجابه علي رضي الله عنه: "لا، إلا إذا شهد عليه ثلاثة شهود، وإلا يُعاقب الحاكم بالردة عن كذب".

وهكذا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير واجب على المؤمن، لكن أخذ القضاء أو العقاب بيده يعد تمرداً على الدولة ورفضاً لطاعتها. الخوارج لم يفرقوا بين هذين الأمرين، فكانوا يفسرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذريعة للتمرد على الدولة. قالوا لحييفَة رضي الله عنه: هل نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ هل أنت تفعل ذلك؟ فقال لهم:

ألا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحسن ولكن ليس من السنة أن ترفع السلاح على إمامك.

"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا شك خير، ولكن رفع السلاح على الإمام ليس من السنة."

[ابن أبي شيبة، أبو بكر (٢٣٥ هـ)، المصنف (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٩٩٥) ٧/٥٠٨؛ البيهقي، أحمد بن الحسين (٤٥٨ هـ)، شعب الإيمان (بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ١٩٩٠) ٦/٦٣؛ داني، السنن الوارِدَة في الفتن ٢/٣٩١]

২.৪.৩.৩. الولاء للدولة مقابل تأييد المعصية

من خلال كلام حذيفة رضي الله عنه، نفهم الفرق بين الاعتراض على الظلم والولاء للدولة. بناءً على السنة، سنناقش آراء الصحابة في هذا الموضوع تفصيلاً. لقد ذكرنا سابقًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وحد المجتمع العربي القائم على القبائل والجماعات إلى أول دولة حديثة في العالم. وقد أولى اهتمامًا كبيرًا للحفاظ على الولاء للدولة والوحدة أو "الجماعة". حسب القرآن، الحديث، والاستخدام اللغوي العربي في ذلك العصر، تعني "الجماعة" الشعب أو المجتمع (community, society). في الحديث، "الجماعة" تعني الأمة الإسلامية أو المجتمع المسلم. الخوارج في البداية لم يعترفوا بالدولة أو الجماعة أو البيعة، وكانوا يقولون "لا إمارة ولا حاكم". وعندما تم إعلامهم بالأحاديث المتعلقة بهذا الأمر، طبقوا مفهوم "الجماعة" فقط على جماعتهم الخاصة، حيث عينوا أميرًا بينهم وبايعوه وشكلوا جماعتهم الخاصة. الجماعة ليست حزبًا أو فئة صغيرة، بل تعني المجتمع الإسلامي ككل أو الشعب. في المجتمع الأكبر أو الدولة، تسمى الفئات أو الأحزاب الصغيرة حِزْبًا، قومًا أو فرقة، وليس جماعة. القرآن والحديث يأمران بالجماعة وينهون عن الفرق والاحزاب. أما الخوارج فهم يدعون كل المسلمين خارج جماعتهم كفارًا ويزعمون أنهم الجماعة الوحيدة. هكذا يستخدمون أمر الوحدة والتجمع لتبرير الانقسام والاختلاف. [د. أحمد، دراسات الفرق، ص ٦١-٦٢]

أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الغلو في الولاء للدولة. كما يمكن أن يخطئ المسلم في حياته الخاصة في الالتزام بالإسلام، قد يحدث خرق في تطبيق الشريعة في إدارة الدولة أيضًا. لا يجوز أن يُقال عن الدولة كافرة بسبب الذنوب أو الظلم، كما لا يجوز تمرد عليها. بل يجب الاحتجاج على الظلم والجرم بطريقة سلمية مع الحفاظ على الوحدة الوطنية، السلام والنظام. قال ابن عباس رضي الله عنه:

من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية
(رواه البخاري ٦/٢٦١٢؛ ومسلم ٣/١٤٧٧)

وقال أبو هريرة رضي الله عنه:

من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية
(مسلم ٣/١٤٧٦-١٤٧٧)

في سنة ٦٠ هـ، بعد وفاة معابي رضي الله عنه، تولى يزيد الحكم. حكم أربع سنوات وتوفي في سنة ٦٤ هـ. في حكمه عام ٦٣ هـ، ثار أهل المدينة ضد يزيد بسبب ظلمه واستشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه، وكان هذا التمرد مبررًا ومن أجل الله ومن أجل نصرة الحق. ومع ذلك، لم يكن الصحابة أحياءً يوافقون على التمرد. في حديث صحيح مسلم، ذهب الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى عبد الله بن مَطيء، قائد ثوار المدينة، ودعاه للجلوس بأدب، لكنه قال: لم آت للجلوس بل لأحدثك حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية
(مسلم ٣/١٤٧٨)

قالت أم سلمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع
قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا
(مسلم ٣/١٤٨٠-١٤٨١)

من هنا نرى أنه إذا دعم أي مواطن ظلماً من حكومته أو رضي به، فإنه يشترك في ذنب الحكومة. أما في مجالات أخرى مثل التعاون، الوظيفة، العمل أو الولاء للدولة فلا يَثِم المواطن. ذكر القرآن أن يوسف عليه السلام عمل طوعًا تحت فرعون الكافر، ولا يمكن أبداً اعتباره شريكًا في كفر فرعون أو شركه أو مخالفته لأحكام الله.

الإبقاء على الولاء للدولة رغم الظلم والمعاصي هو أمر إسلامي، مع الاعتراض على الظلم. إذا أمر الحاكم الظالم بمعصية الله فلا يجوز تنفيذ ذلك، لكن لا يجوز أيضًا التمرد. بل يجب المحافظة على وحدة الدولة والولاء. وإذا ثبت بوضوح كفر الحاكم أو المسؤول، يجوز التمرد أو ترك الولاء. قال عوف بن مالك رضي الله عنه:

ألا من ولي عليه والفرأه يرى شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدًا من طاعة
(مسلم ٣/١٤٨٢)

وفي رواية أخرى:

إذا رأيتم من ولاكم شيئًا تكرهونه فاكْرَهُوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة
(مسلم ٣/١٤٨١)

والعديد من الأحاديث الأخرى تحث على الحفاظ على الولاء للدولة حتى مع وجود الظلم والمعاصي، ولا يجوز الخروج عليها إلا في حالة الكفر الصريح المثبت.
[البخاري ٦/٢٥٨٨؛ مسلم ٣/١٤٦٧؛ داني، السنن الواردة في الفتن ١-٦]

منذ عهد الخلافة الراشدة، حدثت انتهاكات متفاوته لتشريعات الإسلام في إدارة جميع الدول الإسلامية. فقد تم انتهاك العديد من الأوامر الإسلامية المتعلقة باختيار الحكام، وأخذ المشورة من الشعب، والمساءلة أمام الناس، وضمان حقوق الإنسان، والأمانة والعدل، وإقامة حكم القانون ونفاذه بشكل محايد بدرجات متفاوتة في تلك الدول. وقد ظن الحكام ورؤساء الدول أنهم هم القانون أو الشارع، وأهملوا أحكام القرآن الكريم وتشريعاته بإهمال كبير. حتى أوقات وأشكال الصلاة قد تم تغييرها. شهد الصحابة هذا الوضع في عهد الأمويين، ولكنهم لم يعتبروا الحكومة أو الدولة بسبب ذلك جهلية أو كافرة أو غير إسلامية. بل كانوا يعبرون عن اعتراضهم على الظلم حسب استطاعتهم مع المحافظة على الولاء لهم، ويصلون خلفهم ويشاركون في الجهاد تحت قيادتهم. ولم يعتبر أي إمام، فقيه أو عالم مسلم في العصور التالية هذه الدول دار حرب أو دولة غير إسلامية أو جاهلية لهذا السبب، بل سعوا لتصحيحها وإصلاحها حسب طاقتهم، مع الحفاظ على الولاء الوطني والوحدة.

وقد كانوا دائماً يشجعون على الاعتراض السلمي على الظلم، ويحرمون حمل السلاح واستخدام القوة والتحريض على العصيان تحت مسمى الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد جمعت هذه التوجيهات في العديد من كتب الأحاديث.

عند مراجعة تاريخ الإسلام، نرى أن نهج الصحابة وفق السنة هو الطريقة الصحيحة لتأسيس وإصلاح الإسلام. من اختاروا طريق الحرب والإرهاب والعنف والتهور بدافع الحماس والرغبة في التغيير السريع أو بغضب غير محدود ضد الظلم، لم يحققوا الخير للإسلام أبداً. فقد تحدث الخوارج والباطنية وغيرهم من الجماعات الإرهابية والتطرفية بأقوال حماسية وعاطفية كثيرة وقدموا أحلام "التغيير"، لكنهم لم يفعلوا سوى إثارة الفتن لفترة قصيرة. بينما حافظ العلماء المعتدلون على تفادي العصيان والغلو واستخدام القوة وتغيير الحكومات بالقوة، وبدلاً من ذلك سعوا لدرء تدهور المجتمع المسلم عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلمياً على مر العصور.

خاتمة:

بهذه الطريقة نرى أن غياب التعليم الإسلامي الصحيح هو الذي يمكن أن يولد التطرف أو الإرهاب باسم الإسلام. ومن الضروري جدًا نشر التعليم الإسلامي الصحيح والكامل لردع التطرف والإرهاب. في هذا السياق، يجب علينا أن نتعلم من أعمال الصحابة وقادة المسلمين في العصور التالية في صد الأعمال المتطرفة والإرهابية السابقة. لقد رأينا أن مصدر الإرهاب أو التطرف هو الانعزال الاجتماعي، والازدراء العام للمجتمع المسلم، والكراهية، والغرور المعرفي، والغرور الديني، والمطالبة بحق أو سلطة خاصة لتفسير الإسلام لفرد أو جماعة معينة. وتجلّى الإرهاب في الادعاء بأن صاحب الإيمان كافر بسبب أعماله، والادعاء بجواز قتل الكافر، والانخراط في القتل والتدمير والسلب باسم القضاء أو الجهاد من قبل أفراد أو جماعات. في أي بلد أو زمن، سيتم تكرار هذه المغالطات لنشر الإرهاب والعنف باسم الإسلام. لذلك يجب أن يكون المسلمون واعين لهذه الأمور، وإلا فقد يقع الشباب المتدين في الإرهاب بسبب طموحات أفراد أو جماعات، أو بسبب فخ أعداء الإسلام، أو بدافع الرغبة في رد الظلم، أو الحماس لإقامة الإسلام.

هناك حاجة إلى مقال منفصل لمراجعة تأثيرات الأيديولوجيات الدينية والسياسية للخوارج وأفعالهم في العصور التالية. خاصة في العصر الحديث، قبلت بعض الجماعات الإسلامية بوضوح مبادئ وعقائد الخوارج على أنها صحيحة وتقدمت في طريق التطرف. من بين هذه الجماعات “جماعة المسلمين” و “جماعة التكفير والهجرة” في مصر. ويجب أن نكون على علم بأعمالهم أيضًا. آمل مناقشة هذا الموضوع في مقال منفصل. نسأل الله العظيم أن يمنح الأمة الإسلامية التوفيق في أن تعيش على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وذريته وصحابته. والحمد لله رب العالمين.


কপিরাইট স্বত্ব © ২০২৫ আস-সুন্নাহ ট্রাস্ট - সর্ব স্বত্ব সংরক্ষিত| Design & Developed By Biz IT BD