الإيمان بالتقدير أو قضاء الله (الحلقة-٢)
الجزء الثاني: الإيمان بالقدر أو تقدير الله
يؤمن المؤمن أيضًا أن كل شيء في الكون هو خلق الله وحده. لا خالق غيره، وكل ما سواه مخلوق. حتى أفعال الإنسان هي من خلق الله. كل ما يحدث في الكون هو ضمن إرادة الله وعلمه. لا يحدث أدنى شيء في هذا الكون خارج علمه وإرادته.
علاوة على ذلك، يؤمن المؤمن أن للإنسان إرادة حرة وقدرة على العمل. فقد منح الله الإنسان العقل والقدرة على التمييز والمعرفة. يعمل الإنسان وفقًا لإرادته ومعرفته، ولكن أفعاله تقع ضمن علم الله وإرادته. لو شاء الله، لسلب إرادة الإنسان، لكنه عادة لا يفعل ذلك. وسيجازي الإنسان أو يعاقبه بناءً على استخدامه لإرادته الحرة وقدرته على العمل. الله يحب خلقه أعظم الحب، ولا يظلم أحدًا أبدًا. وهو الرحمن الرحيم، وأعدل الحاكمين.
لننظر إلى مثال: قدّر الله أن السم يسبب الموت. ومنح الله الإنسان العقل والمعرفة، فهو يعلم أن شرب السم يؤدي إلى الموت، ويعلم أيضًا أن الانتحار بهذه الطريقة ذنب عظيم. ومع ذلك، إذا شرب شخص السم بمحض إرادته، فسيموت، وسيكون ذلك ضمن إرادة الله وعلمه.
الله العليم يعلم بعلمه الأزلي أن فلانًا سيختار بكامل إرادته، دون إجبار، أن يشرب السم رغم علمه بأنه سيموت وبأن هذا الفعل إثم. موت شارب السم سيقع ضمن علم الله وإرادته، وسيعاقب الشخص بناءً على استخدامه لإرادته الحرة وقدرته على الفعل.
لو شاء الله، لسلب إرادة هذا الشخص ومنعه من شرب السم، أو لسلب السم مفعوله لينقذه من الموت. لكنه عادة لا يفعل ذلك. فقد كرّم الله الإنسان بالإرادة الحرة، ويميزه عن سائر المخلوقات. فهو لا يسلب هذه الإرادة ولا يعيقها.
يخلط بعض الناس بين الإيمان بالقدر الإسلامي والإيمان بالقدرية غير الإسلامية. يعتقد البعض أنه إذا كان كل شيء مقدرًا، فما فائدة العمل؟ هذا اعتقاد مناقض للإسلام تمامًا. نرى في القرآن أن كفار مكة كانوا يؤمنون بهذا النوع من الاعتقاد. (انظر: سورة الأنعام، الآيات ١٤٨-١٤٩؛ سورة الأعراف، الآية ٢٨).
أما الذي يجادل في القدر وينبذ العمل بحجة القدر، فهو في الحقيقة يعين نفسه حاكمًا ومفتشًا على أفعال الله! كأنه يقول: "العمل ليس مسؤوليتي، بل مهمتي هي الحكم على علم الله وأفعاله! لماذا علم الله هذا أو فعل ذلك؟!"
بينما المؤمن يؤمن بكل قلبه أن الحكم على أفعال الخالق ليس من شأن الإنسان. فما علمه الله، وما كتبه، وكيف كتبه، وما محاه أو أبقاه — لم يخبر الإنسان به، لأن معرفة ذلك لا تنفعه. كل ذلك جزء من ربوبيته العظيمة. واجب الإنسان هو العمل وفق أوامر الله، وعدم القلق على النتائج، والثقة الكاملة في رحمته وحكمته وعدله.
الإيمان بالقدر في الإسلام يجعل المسلم نشطًا، ولا يثبّطه عن العمل. هذا الإيمان يحرر الإنسان من اليأس والقلق. المؤمن يعلم أن مسؤوليته هي العمل، أما النتائج فهي بيد من يحبه أكثر مما يحب نفسه، وهو الرحمن الذي لا يظلم أحدًا، والذي يكافئ عباده بأكثر مما يستحقون. لذا، يكون قلب المؤمن دائمًا خاليًا من الهم والقلق.
الإيمان بالقدر يحمي الإنسان من الكبرياء والفرح المفرط واليأس. فلا يتكبر عند النجاح أو النعم، لأنه يعلم أن ذلك بفضل إرادة الله ورحمته. فيمتلئ قلبه بالشكر. والفرق بين القلب الشاكر والمتكبر هو الفرق بين القلب الإنساني والقلب الحيواني.
أما في حال الفشل أو الهزيمة، فلا ييأس المؤمن. فهو يؤمن أن النتيجة كانت وفق إرادة الله وعلمه، وأن ربه الرحيم قادر على تغييرها إن شاء، وأن فيها خيرًا مستترًا. بل إن المؤمن لا يعترف أصلاً بمصطلح "فشل" أو "هزيمة" في حياته، لأنه يعلم أن الله قد خزّن له أجر صبره وعمله في الآخرة، وسينال بركات الدنيا والثواب الأخروي.